نقابات الشمال: لماذا هجرتها قوى الثورة؟

مدة القراءة 8 د

تُعدّ الانتخابات النقابية أحد المؤشّرات البارزة لقياس نبض الرأي العامّ واستشراف ميوله السياسية، ولا سيّما قبيل الانتخابات النيابية.

ربّما يبالغ البعض في الركون إلى مثل هذه المؤشّرات، فالانتخابات النقابية تحكمها جملة من العوامل المتداخلة والمتضاربة، التي قد تُسهِم النتائج المترتّبة عليها في خداع أو إيهام الحالمين والطامحين إلى دخول الندوة البرلمانية فرادى أو مجموعات.

تُعدّ الانتخابات النقابية أحد المؤشّرات البارزة لقياس نبض الرأي العامّ واستشراف ميوله السياسية، ولا سيّما قبيل الانتخابات النيابية

فالنقابات التي تحظى انتخاباتها باهتمام إعلامي وسياسي، وهي نقابات المحامين والمهندسين والأطباء بالدرجة الأولى، أغلب المنتسبين إليها، إن لم يكن جميعهم، يُعتبرون من النخب، التي لديها صوت مسموع في السياسة والإعلام، لكنّه ليس كذلك في صناديق الاقتراع، حيث تدخل عوامل أكثر تأثيراً وحسماً، منها التحالفات السياسية وتوجّهات المؤسسة الدينية، وخدمات المرشّحين وتقديماتهم، والمفاتيح الانتخابية الشعبية، ومعها عوامل أخرى.

لذلك لا يمكن الاعتداد بما أفرزه المشهد الانتخابي النقابي في محطّاته المتتابعة، إلا أنّه على هامش تلك الانتخابات توجد بعض الملاحظات التي لا يمكن القفز فوقها أو عدم الالتفات إليها.

“فدرلة” الثورة

يسيطر نوع من التفكير “الفدرالي” على القوى الفاعلة في الثورة، أو أكثر المجموعات تأثيراً في بحر المجموعات الثورية المتلاطم، مثل “جبهة المعارضة الوطنية” و”نحو الوطن” و”كلّنا إرادة” و”مواطنون ومواطنات في دولة” و”حزب الكتلة الوطنية”. إذ تُبدي تلك القوى اهتماماً استثنائياً بمدينة بيروت ومناطق الثقل المسيحي في جبل لبنان، كسروان وجبيل والمتن الشمالي، في حين أنّها لا تبالي كثيراً بالمناطق الطرفيّة.

يظهر ذلك في استعداداتها المكثّفة للانتخابات النيابية، كما في الانتخابات النقابية. فقد أقبلت على المعركة الانتخابية في نقابة المهندسين والمحامين في بيروت بزخم كبير واهتمام إعلامي هائل، في حين أنّها غابت عن مثيلتها في مدينة طرابلس، تاركةً الأمر في عهدة المجموعات التغييرية هناك، التي تتخبّط فيما بينها. حتى في الانتخابات النقابية في بيروت، كان الاهتمام محصوراً بالناخبين من مهندسين ومحامين في بيروت والجوار فقط.

ومن المستغرب حقّاً أن لا تُبدي قوى التغيير اهتماماً بنقابات محافظة الشمال، ولا سيّما الدائرة الثالثة، التي تُعدّ دائرة رئاسية بامتياز، في ظلّ وجود ثلاثة، بل وربّما أربعة، مرشّحين لرئاسة الجمهورية فيها: سليمان فرنجية، سمير جعجع، جبران باسيل، ميشال معوّض. رغم أنّها أعدّت تحالفاً كبيراً بعنوان “شمالنا” للانتخابات النيابية.

الدكتور روبن طالب (عضو في “مجتمع الكورة المستقلّ”) لـ”أساس” باسم ائتلاف “شمالنا”: “الشمال لم يعُد إلى كنف السلطة، ولن يحدث ذلك

عودة إلى بيت طاعة السلطة

إذا كانت الانتخابات النقابية في بيروت قد تراوحت بين مدٍّ وجزرٍ في الصراع ما بين التقليد والتجديد، فحُسِمت نقابة المهندسين لمصلحة التجديد، ونقابة المحامين لمصلحة قوى السلطة، بسبب تشتّت أصوات “الثورة” بين أكثر من لائحة ومرشّح، إلا أنّ المشهد الانتخابي النقابي في عاصمة الشمال بدا قاسياً بحقّ قوى 17 تشرين.

فقد أظهرت النتائج النقابية في الشمال استعادة القوى السياسية التقليدية زمام المبادرة، في مقابل تخبّط القوى التغييرية، وفشلها في إنتاج كيان سياسي ذي حضور وتأثير، وانعكاس ذلك في الاقتراع النقابي، حيث بدت تلك المجموعات تائهة، وأحياناً كأنّها تتسوّل المرشّحين. فكلّما أعرب أحد المرشّحين عن اعتراضه على ما يُسمّى “الطبقة الحاكمة”، الذي هو في الأساس مصطلح مطّاط جدّاً، سارعت تلك القوى إلى تبنّيه واعتباره مرشّح الثورة.

وفي جردة سريعة لأربع محطّات انتخابية نقابية متتالية في عاصمة الشمال، لا يفصل بينها سوى فسحة زمنية قصيرة، يتبيّن لنا التالي:

1- نقابة الأطباء: أُجريت في 23 أيار الماضي لاختيار ستّة أعضاء جدد من أصل عشرة في مجلس النقابة، وبلغت نسبة الاقتراع حوالي 50%، لكنّ اللافت هو قلّة عدد الذين سدّدوا اشتراكاتهم، (1079 من أصل 2500 طبيب)، وفاز فيها تحالف كبير يضمّ التيارات السياسية المتخاصمة “الأعدقاء”، في حين أخفقت اللائحة المدعومة من قوى المجتمع المدني في إحداث أيّ خرق.

2- نقابة المهندسين: أُجريت في 14 حزيران الماضي، ولم تصل نسبة الاقتراع فيها إلى 25% من المهندسين الذين سدّدوا اشتراكاتهم (اقترع 2527 من أصل 9525 مهندساً)، وهو مؤشّر هامّ جدّاً، وقد تعمّدت قوى السلطة وإعلامها إهماله تماماً وعدم التطرّق إليه. وأسفرت الانتخابات عن فوز اللائحة المدعومة من معظم قوى السلطة، مع نجاح قوى الثورة في تسجيل خرق وحيد لمهندس كان في لائحة دعمها التيار العوني والحزب القومي السوري الاجتماعي، والحزب الشيوعي، وفريق من الخارجين من تيار المستقبل.

3- نقابة أطباء الأسنان: أُجريت في السابع من الشهر الحالي، لانتخاب نقيب وستّة أعضاء لمجلس النقابة، وشهدت مشاركة هزيلة، حيث اقترع 319 طبيباً من أصل 570 سدّدوا اشتراكاتهم، في حين أنّ النقابة تضمّ نحو 1000 منتسب، وتبيّن أنّ الجزء الأكبر منهم هاجر خارج البلاد. ونجح تحالف المستقلّين وجمعية المشاريع الإسلامية في الحصول على ثلاثة مقاعد، مقابل ثلاثة لتحالف قوى السلطة مع نهاية الدورة الأولى، وتمّ اختيار النقيب بالتزكية في الدورة الثانية، بعد انسحاب منافسه. والنقيب الجديد محسوب على قوى الثورة.

4- نقابة المحامين: أُجريت الأحد الماضي، وفازت لائحة تحالف معظم قوى السلطة، على منافسين مدعومين من باقي أفرقاء السلطة، وحصل المرشّح الذي حاولت قوى الثورة تسويق “ثوريّته” على عدد هزيل من الأصوات، جمع أغلبها بمجهوده الشخصي وعلاقاته المهنيّة. وشهدت إقبالاً كثيفاً على الاقتراع بلغت نسبته 89% في الدورة الأولى و74% في الدورة الثانية، حيث ظهرت القوى السياسية السنّيّة كأنّها تقترع تحت عنوان “الوفاء لسليمان فرنجية”، الذي نجح في جمع المتخاصمين السُنّة تحت عباءته. وسجّلت الانتخابات سابقة إيجابية ونوعيّة، تمثّلت بوصول سيدة إلى مركز النقيب، لتكون أول نقيبة في تاريخ النقابة، في الذكرى المئوية الأولى لإنشائها، وتنتمي إلى “تيار المردة”.

الصحافي والمحامي مصطفى العويكلـ”أساس” باسم “الشمال ينتفض”: “الشمال لم ولن يخرج من عباءة المبادئ التي انتفضت الناس لأجلها

هل خرج الشمال من الثورة؟

يطرح هذا السؤال نفسه بقوّة بعد المحطات الانتخابية النقابية الأربع. وقد طرحنا هذا السؤال على مجموعتين أُسِّستا حديثاً، هما ائتلاف “شمالنا” في الدائرة الرئاسية (الثالثة)، الذي يضمّ عدداً من المجموعات الثورية، ومجموعة “الشمال ينتفض”، في دائرة الشمال الثانية، طرابلس والضنّية والمنية. وتسعى هاتان المجموعتان إلى تشكيل ائتلاف سياسي واسع يحتضن قوى الثورة، وذلك لأنّهما الجهتان الوحيدتان في الشمال اللتان أعلنتا رؤيتهما السياسية حتى الآن.

يقول الصحافي والمحامي مصطفى العويك، متحدّثاً لـ”أساس” باسم “الشمال ينتفض”، إنّ “الشمال لم ولن يخرج من عباءة المبادئ التي انتفضت الناس لأجلها. فالشمال انتفض لأنّه عانى ولا يزال يعاني إهمالاً تاريخياً من قبل الدولة، لكنّ الفقر المُدقع الذي تعاني منه غالبيّة أهل الشمال، دفعهم إلى الالتهاء بلقمة العيش في ظلّ هذه الأزمة الاقتصادية والماليّة القاسية. أضف إلى ذلك أنّ الممارسات الميليشياوية، التي قامت بها السلطة، دفعت الناس إلى الانكفاء وترك الساحات والشوارع لجماعات الأجهزة الأمنيّة، لكنّ قلب الشمال لا يزال ينبض بالثورة، ويؤمن بالشعارات التي أطلقتها في 17 تشرين ضدّ التحالف الشيطاني بين الميليشيا والفساد. وموعدنا معهم في الانتخابات النيابية، ولذلك لم تهتمّ القوى الثورية في الشمال بالانتخابات النقابية، مفضِّلةً التركيز على الاستحقاق النيابي الذي نراهن عليه كثيراً لإحداث التغيير المنشود”.

ويقول الدكتور روبن طالب (عضو في “مجتمع الكورة المستقلّ”)، في حديث لـ”أساس” باسم ائتلاف “شمالنا”، إنّ “الشمال لم يعُد إلى كنف السلطة، ولن يحدث ذلك. ونتائج الانتخابات النقابية تُظهر أنّ في الشمال رأياً عامّاً يريد التغيير، على الرغم من أنّ المجموعات التغييرية لم تضع ثقلها في الاستحقاقات النقابية، لأنّها لا تزال طريّة العود وضعيفة التجربة من جهة، ولأنّ الانتخابات النيابية، وهي الأهمّ، لا يفصلنا عنها سوى فترة زمنية قصيرة، ولذلك تفضِّل التركيز عليها”.

إقرأ أيضاً: الانتخابات النيابيّة في طرابلس: صورة ضبابيّة ولكن!!

في نقابة أطبّاء الأسنان حصلت قوى التغيير على موقع النقيب ونصف أعضاء مجلس النقابة، وفي نقابة المهندسين كان مجموع الأصوات التي حصدتها جدّ إيجابيّ، إضافة إلى أنّ ثلاثة أرباع الكتلة الناخبة ممّن يحقّ لهم التصويت أحجموا عن المشاركة، وهذا مؤشّر مهمّ جدّاً يجب الاحتكام إليه من أجل المزيد من العمل على توحيد جهود قوى المعارضة والتغيير، وخوض الاستحقاق النيابي وفق برنامج سياسي يستطيع اجتذاب هذه النخب والكتل الصامتة.

لكنّ التجربة النقابية في الشمال، إذا ما اعتبرناها “مؤشّراً”، فهي مؤشّر غير مشجّع.

مواضيع ذات صلة

ساعات حاسمة… ومصير السّلاح مجهول

في الأيام الماضية ضغط جيش العدوّ الإسرائيلي بجولات من قصف صاروخي عنيف ومكثّف لا مثيل له منذ بدء العدوان الجوّي في 23 أيلول الماضي، وتوّج…

كيف يستعدّ الحزب لليوم التّالي؟

بدأ الحزب إعادة ترتيب أولويّاته تحضيراً لليوم التالي في الحرب بعيداً عن التفاصيل الميدانية الحربية والمفاوضات السياسية الحاصلة لإصدار قرار وقف إطلاق النار.   أشارت…

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…