في 25 تشرين الثاني نشر موقع “أساس” مقالاً للزميل الأستاذ زياد عيتاني، رئيس تحرير الموقع، بعنوان “المسيحيّون يصرخون: نريد تطبيق الطائف الآن”. عندما قرأت العنوان تبادر إلى ذهني أنّ المقال يتطرّق إلى المطالبة المسيحية التاريخية باستكمال تطبيق اتّفاق الطائف نصّاً وروحاً. ولكن عندما قرأته تبيّن لي أنّه يعالج قضية رفض التيار الوطني الحرّ لاتفاق الطائف، ويعتبر أنّه موقف المسيحيين من الاتفاق. لذلك، وبحسب الكاتب، سيأتي يوم يندم فيه المسيحيون ويصرخون: “نريد تطبيق اتفاق الطائف الآن. نريد العودة إليه نصّاً وروحاً بكامل تفاصيله كي ينتظم الحكم ووجودنا في لبنان…”.
صحيح أنّ الجنرال عون رفض اتّفاق الطائف منذ أن كان رئيساً لحكومة انتقالية في بعبدا، خاصّة بعدما شعر بأنّه لن يُؤتى به رئيساً للجمهورية. ولكن هل رفض التيار الوطني الحرّ للاتفاق يعني أيضاً رفض المسيحيين له؟
البطريركية المارونية هي الممثّل الأوّل للمسيحيين وللوجدان المسيحي. ليس لأنّها رأس الكنيسة المارونية، الكبرى في لبنان، بل لأنّها مرجعية وطنية كانت دائماً إلى جانب المسيحيين
بالطبع لا. فالتيار الوطني الحرّ لا يمثّل كلّ المسيحيين، وبالأخصّ لا يمثّل الوجدان المسيحي. لماذا؟
1- لأنّ التيار الوطني الحرّ، على الرغم من أن مؤسّسه ورئيسه وأعضاءه مسيحيون، ومن حصوله على تكتّل نيابي مسيحي كبير، لا يجسّد الوجدان المسيحي العتيق. فهو في الأساس ليس تيّاراً مسيحياً. لم ينطلق من حالة مسيحية معيّنة. بل هوتيّار سياسي انطلق خلال فترة تواجد الجنرال ميشال عون في القصر الجمهوري رئيساً لحكومة انتقالية، بلباس الجيش اللبناني.
2- ولأنّ سياسة التيار الوطني الحرّ وتحالفاته، خاصة في السنوات الأخيرة، خرجت عن الثوابت المسيحية التي تتمثّل في خيار الدولة اللبنانية والحفاظ على مؤسّساتها ورفض تحالف الأقليّات… فالتيّار بتحالفه مع حزب الله ضرب تلك الثوابت. والحزب، في أساس وجوده يتناقض مع دستور وقوانين الدولة اللبنانية. تنظيمه العسكري يتعارض مع مبدأ حصريّة السلاح بيد القوى الشرعية. سيطرته على قراريْ السلم والحرب تهمّش مؤسّسات الدولة السياسية والعسكرية. وتبعيّته لإيران تتناقض تماماً مع عروبة لبنان المنصوص عليها في الدستور ومع خيار المسيحيين العيش بسلام وأخوّة مع المحيط العربي على أساس احترام سيادة واستقلال الدولة اللبنانية.
3- لأنّ علاقة ميشال عون بالكنيسة المارونية شابها الكثير من الشوائب منذ حبريّة البطريرك الراحل نصرالله صفير حتى اليوم. لذلك لم يحصل شعار “المسيحيّة المشرقية”، الذي رفعه، على بركتها. وزيارته براد في سوريا كانت باهتة. وشعار “الدفاع عن حقوق المسيحيين” لم ينطلِ على المسيحيين، وتكشّف سريعاً أنّه حجّة لتعيين الأزلام في الإدارة العامّة.
إذا لم يكن التيار الوطني الحرّ هو مَن يمثّل المسيحيين والوجدان المسيحي العميق، فمَن يمثّلهم؟
1- إنّ البطريركية المارونية هي الممثّل الأوّل للمسيحيين وللوجدان المسيحي. ليس لأنّها رأس الكنيسة المارونية، الكبرى في لبنان، بل لأنّها مرجعية وطنية كانت دائماً إلى جانب المسيحيين، كلّ المسيحيين، منذ ما قبل نشوء الوطن. عانت معهم الاضطهادات وصمدت. ناضلت من أجل حماية وجودهم في هذ الجبل اقتصادياً واجتماعياً. قادت انفتاحهم الثقافي والعلمي على الغرب. رافقت تأسيس كيان إداري في القائمقاميّتين، ثمّ كيان سياسي في المتصرّفيّة، لضمان وجودهم الحرّ. ثمّ أخذت المبادرة وناضلت من أجل تأسيس دولة لكلّ اللبنانيين تضمن الوجود المسيحي الحرّ في هذا الشرق. وقد ثبّتت البطريركية المارونية دورها هذا الممثِّل للوجدان المسيحي في لبنان عبر المئة عام المنصرمة على الرغم من أنّ شعبوية ساكن بعبدا كانت تشوِّه هذا الدور أحياناً. ولكن سريعاً ما كان المسيحيون يكتشفون صوابيّة بكركي في موقفها وخطأ ساكن بعبدا في شعبويّته. ويصحّ القول الذي كان يردّده البطريرك صفير: “بكركي من عركي لعركي، لا زيتا ولا نورا شحّ، كلّن عم يحكوا تركي، إلا بكركي بتحكي صحّ”.
علاقة ميشال عون بالكنيسة المارونية شابها الكثير من الشوائب منذ حبريّة البطريرك الراحل نصرالله صفير حتى اليوم. لذلك لم يحصل شعار “المسيحيّة المشرقية” الذي رفعه على بركتها
2- الطرف الثاني الذي يمثّل الوجدان المسيحي هي القوات اللبنانية التي كانت، منذ تأسيسها، على علاقة وطيدة وراسخة وثابتة بالكنيسة ومرجعيّاتها ورهبانيّاتها ومؤسّساتها، وهي مَن تحميها وتدافع عنها عندما يدقّ الخطر على الأبواب. ونقصد بالقوات التنظيم العسكري، الذي جمع كلّ التنظيمات العسكرية المسيحية التي انضوى تحت لوائها، منذ بداية الحرب، الشبّان والشابّات المسيحيون للدفاع عن عائلاتهم وبلداتهم ومدنهم والدولة ومؤسّساتها، والذي أصبح حزباً سياسياً فيما بعد، وعاد إلى الحياة السياسية بعد خروج رئيسه من الاعتقال السياسي. إنّها المقاومة السياسية والعسكرية التي نشأت في قلب الكنيسة وببركتها. المقاومة التي تطوّع فيها كلّ الشابّات والشبّان المسيحيين الذين هبّوا للدفاع عن الدولة اللبنانية المهدّدة والوجود المسيحي الفاعل فيها منذ العام 1975. فالجبهة اللبنانية، الجناح السياسي للمقاومة اللبنانية، أُسِّست في جامعة الروح القدس في الكسليك، وكان اسمها “جبهة الحريّة والإنسان”. وكان الرئيس العامّ للرهبانيّة اللبنانية المارونية عضواً فيها حتى العام 1986. ورهبان الجامعة مع نخبة من المثقّفين المسيحيين كانوا أوّل مَن قام بالدراسات والأبحاث لمساعدة الجبهة اللبنانية في أداء مهمّتها التاريخية. لذلك ليس صدفةً أن يكون قسم من المجلس الحربي للقوات اللبنانية في الكرنتينا مبنيّاً على جزء من أرض الرهبانية ذاتها، وأن يكون فيه كنيسة يصلّي فيها بشير الجميّل ورفاقه ويحيون فيها الاحتفالات الدينية. وحين قرّر سمير جعجع تنظيم الجهاز العسكري بعد انتفاضة 12 آذار، اختار ثكنة دير مار شليطا – مقبس في غوسطا مقرّاً لمعهد الكوادر الذي منه تخرّج الضبّاط. وكان دير مار إلياس في بلّونة مركزاً للإعداد الفكري الذي أسّسه إيلي كيروز. حتى إنّ فرقة الصدم كان مركزها في دير المخلّص في دلبتا. وكانت كنيسته في قلب الثكنة يزورها عناصر الفرقة يوميّاً ويصلّون راكعين.
ولأنّ القوات اللبنانية تجسّد هذا الوجدان لدى المسيحيين، قدّمت بكركي لعناصرها أرضاً في طبرية (قضاء كسروان) زرعوا فيها غابة أرز تخليداً لذكرى رفاقهم الشهداء، وشيّدوا فيها كنيسة على اسم مار إسطفان أوّل الشهداء. وحوّلوا محيط كنيسة سيدة إيليج (التي كانت مقرّاً بطريركيّاً) في ميفوق (قضاء جبيل) إلى غابة أرز يرقد فيها العديد من رفاقهم الشهداء.
ولذلك كان الممثّلون الحقيقيّون للمسيحيّين وللوجدان المسيحي مع الطائف منذ ما قبل إقراره. شاركوا في مناقشاته، ودافعوا عنه، فجعلهم ميشال عون الذي رفض الاتفاق يدفعون الثمن غالياً. دفع البطريرك الراحل نصرالله صفير الثمن حين اعتدوا عليه في بكركي، فاضطرّ إلى الانتقال إلى الديمان، وشنّ على القوات حرباً ضروساً ضدّها لإلغائها.
بعد نهاية الحرب جعلت الوصاية السورية وأزلامها الطرفين يدفعان الثمن مجدّداً لأنّهما كانا يصرخان “نريد تطبيق الطائف الآن” بنصّه وروحه. فتعرّضت بكركي لمحاولات التهميش، ودخل سمير جعجع السجن.
بعد جلاء الجيش السوري عن لبنان كان أعضاء “لقاء قرنة شهوان”، الذي رعته بكركي والقوات اللبنانية في أساس “14 آذار”، التيار السياسي السيادي المتمسّك بدستور الطائف والمدافع عنه.
إقرأ أيضاً: المسيحيّون يصرخون: نريد تطبيق الطائف الآن
واليوم تبدو المرجعيّات والأطراف المسيحية الممثّلة الحقيقيّة للمسيحيين وللوجدان المسيحي العميق وكأنّها آخر حصن في الدفاع عن اتّفاق الطائف، بمعارضتها القويّة لحزب الله الذي، بهيمنته على قرار الدولة ومؤسّساتها، يدمّر الدولة ويلغي الطائف. وما حليفه “المسيحي” إلا حالة سياسية مستجدّة في المجتمع المسيحي.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة