سيأتي على لبنان يومٌ يحتشد فيه المسيحيون، مطارنةً ورهباناً وقسّيسين وعلمانيّين ونساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، بكلّ مذاهبهم، وعلى رأسهم الموارنة، في الساحات والطرقات. ستتوجّه وفود القرى من كسروان وجبيل والجنوب وجبل لبنان، على وقع أجراس الكنائس، باتّجاه الأوتوسترادات الدوليّة، وصولاً إلى ساحة الشهداء في بيروت. سيصرخون هناك بأعلى صوتهم: “نريد تطبيق اتفاق الطائف الآن. نريد العودة إليه نصّاً وروحاً بكامل تفاصيله كي ينتظم الحكم ووجودنا في لبنان”.
الأوطان لا تقوم على الانتقائيّة ولا على الاستنسابيّة، بل تقوم على احترام الكتاب بما فيه، نصّاً وروحاً، لأنّه المظلّة الوحيدة التي تحمي البشر والعباد. هو الدستور، هو الطائف لنا جميعاً بمنزلة طوق النجاة
سيحمل أبناء البترون الحجارة كي يلاحقوا مَن راودهم عن حصنهم وعن وطنهم، تحت مقولة “استعادة حقوق المسيحيّين”، متلاعباً بغرائزهم عبر نشر صلبانهم على التلال وفوق الوديان. سيرشقونه بالحجارة، ويلاحقونه وصولاً إلى قرية سلعاتا الساحلية، ليطلقوا هناك بدلاً من معمل الكهرباء فعل “الندامة” على كلّ خطاب الكراهية والتقسيم والنكران لفضل اتفاق الطائف على لبنان. الخشية كلّ الخشية أنّه في ذاك اليوم سيكون فعل “الندامة” متأخّراً. فلن يجد المسيحيون شركاء لهم في الوطن يناصرونهم في مطلبهم. فقد اقترب الشركاء، بفعل الكراهية المرتكبة بحقّهم، من الكفر بالطائف وبساعته وبما حمله من قواعد ونصوص همّها حماية المسيحيّين في لبنان من غدرات الزمان قبل أن يهدمها رئيسهم بيده المرتجفة.
الخشية، إنْ طرقوا باب دار الفتوى، ألّا يفتح لهم أحد، وإنْ ذهبوا إلى المجلس الشيعي الأعلى أن يكون هوى المجلس قد تغيّر ولم يعُد اتفاق الطائف في الحسبان، وإنْ لجأوا إلى دار الطائفة الدرزية في بيروت قال لهم شيخ العقل: “كلّ المنى أن أقف معكم، لكن ما باليد حيلة، فالناس باتت في مكان آخر، واتفاق الطائف بات في عالم النسيان”.
يمارس المسيحيون عبر سياسيّيهم منذ الاستقلال فعل “النكران”. وعندما جاء من بينهم رئيس اسمه اللواء فؤاد شهاب، رافعاً شعاراً واحداً عند كلّ الأزمات: “ماذا يقول الكتاب؟”، رموه بكلّ القاذورات الطائفية، حتى كادوا أن يخرجوه من الكنيسة، وكثيرٌ منهم قالوا عنه تهكّماً إنّ اسمه “محمد فؤاد شهاب”. اليوم بعد كلّ تلك السنوات يتنكّرون لاتّفاق الطائف مخترعين المئات من الشعارات، منها حقوق المسيحيين المسلوبة من شركائهم السُنّة، وهذا ما قاله النائب جبران باسيل أمام بقاعيّين منذ فترة ونقله زميلنا قاسم يوسف في إحدى المقالات. واليوم يتلطّون خلف انفجار المرفأ ودماء الضحايا الأبرياء وكأنّ المصيبة مصيبة طائفة وليست نكسة وطن ومحاولة إلغاء عاصمة البلاد. عبر تلك الشعارات يتمّ النيل من الدستور وكأنّ العدالة تتقدّم على الدستور وعلى كلّ المواثيق والقوانين والتطبيقات، فيما العلم يقول إنّ حماية العدالة تكون عبر الدستور ونصوص القوانين، وليس عبر الشعبويّة وأهواء الشوارع والطرقات.
لن يتأخّر كثيراً ذاك اليوم، عندما يصرخ المسيحيون غاضبين: “نريد تطبيق اتفاق الطائف الآن”، ليس لأنّه أفضل الدساتير، ولا لأنّه المخرج الوحيد لأزماتنا، بل لأنّنا عاجزون جميعاً عن صناعة البديل كي نحفظ لبنان
وفي الممارسة تتجلّى المحكمة العسكرية نموذجاً صالحاً لكلّ المناسبات. لقد سكت المسيحيون عن تجاوزات تلك المحكمة للدستور والقانون ولزوم العيش المشترك طوال ما مرّ من سنوات، حينما أهملوا انعقاد جلساتها لإدانة شركائهم وأبناء وطنهم، وهلّلوا لها عندما انتصرت لنجمة تلفيق الملفّات، لا لشيء إلا لأنّها ابنة الطائفة فيما يجب أن يكون التضامن مع الحقّ لا مع الطائفة، ولا مع أيّ واحدة من “النجمات” العسكرية.
عندما نظرت المحكمة العسكرية في آلاف القضايا، وأوقفت مئات الشباب قهراً وتعسّفاً وكيديّة، بناءً على توجيهات الدويلة، وعلى حساب الدولة وكلّ ما يقوله القانون من موجبات، سكت الجميع على قاعدة أنّ “المسيحيّين لا ضرر عليهم من هذه الانتهاكات”. واليوم يشرب أبناء عين الرمّانة من الكأس نفسها، والوفود التي كانت تتجمّع أمام سجن رومية قادمةً من طرابلس متضامنةً مع أبنائها الموقوفين من دون محاكمات، إذ بها تُستنسَخ اليوم على درج الصرح البطريركي في بكركي تضمّ أطفالاً ونساء، والمطلب واحد “لا لظلم المحكمة العسكرية.. أطلقوا سراح أبنائنا فهم أبرياء”.
الأوطان لا تقوم على الانتقائيّة ولا على الاستنسابيّة، بل تقوم على احترام الكتاب بما فيه، نصّاً وروحاً، لأنّه المظلّة الوحيدة التي تحمي البشر والعباد. هو الدستور، هو الطائف لنا جميعاً بمنزلة طوق النجاة.
إقرأ أيضاً: المسيحيون بين مار مخايل والطيونة: الدولة.. أو الهجرة
لن يتأخّر كثيراً ذاك اليوم، عندما يصرخ المسيحيون غاضبين: “نريد تطبيق اتفاق الطائف الآن”، ليس لأنّه أفضل الدساتير، ولا لأنّه المخرج الوحيد لأزماتنا، بل لأنّنا عاجزون جميعاً عن صناعة البديل كي نحفظ لبنان.