إذا كان للبقاع خصوصية سياسية وجغرافيّة قصوى، تتعلّق أساساً بحساسيّة تاريخية فاقعة ومفرطة طالما عبّر عنها النظام السوري، فإنّ المؤسّسة الدينية تحتلّ حجر الزاوية في هذه الخصوصية. وقد كان مطلوباً على الدوام أن تظلّ تحت السقف المسموح والمتاح، وأن تكون دمشق ومدارسها الدينية الممسوكة مربط خيل كبار العلماء والأئمّة وخطباء المساجد، وعند هذه المعضلة تحديداً كانت مشكلة سوريا مع أزهر البقاع، ومع مؤسّسه سماحة المفتي الراحل الشيخ خليل الميس.
ترعرع المفتي في أزهر مصر، وقد كان مصريّ الهوى ولبنانيّ الهويّة، وكانت سوريا تدرك ذلك تمام الإدراك، لكنّه استطاع بحنكته وصبره ورؤيويّته أن يوائم بين ما يريده القلب وما يفرضه الواقع. وقد ساهم عبر سياساته تلك في الحؤول دون الاصطدام المباشر بسلطة الأمر الواقع آنذاك، وأن يحمي أزهر البقاع، وكلّ المؤسسة الدينية، حتى في عزّ السطوة الأمنيّة والعسكرية، وفي خضمّ الرُهاب السوريّ من رجالات الدين السُنّة، داخل الجغرافيا السوريّة وخارجها، ولا سيّما في لبنان، وتحديداً في محافظة البقاع، التي طالما اعتبرها ضاحية من ضواحي دمشق.
لا تتركوا أزهر البقاع، بل احتضنوه وساندوه وساعدوه. ولا تسمحوا بأيّ شكل من الأشكال أن يتشظّى تحت وابل الاشتباكات والتجاذبات الشخصية والسياسية
مع بزوغ فجر الاستقلال الثاني، انقلبت المعادلة رأساً على عقب. وقد بدأها المفتي الميس، رحمه الله، بالصلاة على جثمان رفيق الحريري في ذاك اليوم المشؤوم، وهذه بحدّ ذاتها كانت شجاعة تفوق كلّ شجاعة، خصوصاً بإزاء نظام جريح لا يزال ممسكاً وحاضراً وهائلاً في سطوته ونفوذه وقدرته. بيد أنّ الأزهر، وعلى رأسه سماحة المفتي، سلك طريق الحقّ، غير آبهٍ بما قد يرتّبه هذا السلوك من مخاطر جمّة على المفتي بشكل خاصّ، وعلى الأزهر وعموم مشايخ البقاع بشكل عامّ.
حمل الأزهر قسطاً كبيراً من الاستقلال الناجز، وقد ظلّ ضنيناً على حريّة لبنان وسيادته واستقلاله حتى في أحلك الظروف وأدقّها على الإطلاق، ثمّ دخل بصلابة منقطعة النظير إلى عمق الأزمة الداخلية، خصوصاً بعد محاصرة السراي الحكومي وأحداث السابع من أيار. وقد ظلّ مواظباً على مواقفه تلك، بل وأعلن القطيعة الكاملة مع سوريا، على الرغم من معرفته العميقة بحساسيّة هذا الأمر وخطورته، سياسياً واجتماعياً، وحتى جغرافيّاً.
لم تتوقّف الأمور عند الداخل اللبناني، بل تخطّته إلى الساحة السوريّة مع انطلاق الثورة. وقد كان للأزهر وسيّده ورجالاته وطلّابه دور كبير جدّاً في المساندة وفي المساعدة وفي الاحتضان، وكان لعلمائه الدور الوازن والمؤثّر في استنهاض الرأي العام وتعبئته على نحو غير مسبوق من الشجاعة والإقدام والتوثّب، مع ما يعنيه هذا أيضاً من مخاطر هائلة على المؤسسة وعلى العلماء الذين دفع البعض منهم أثماناً باهظة.
ترجّل المفتي بعدما ترك روحه في إمبراطورية سقاها من ماء عينيه. وقد رسم في حياته خطّ سيرها وتوجّهها وثباتها ونبل غاياتها. ونحن جميعاً مؤتمنون الآن على حملها ومواكبتها وتأمين ديمومتها على نحوٍ لا يحتمل الخطأ أو الانقسام. ولذلك كان لا بدّ من هذا النداء، وهو نداء موجّه إلى كلّ مَن يعنيهم الأمر، بدءاً من مفتي الجمهورية الحريص كل الحرص على أزهر البقاع ودوره ورسالته، مروراً برئاسة مجلس الوزراء، وصولاً إلى كلّ الفاعلين وأصحاب النخوة والغيرة، علّنا نخرج جميعاً من عنق الزجاجة، ونذهب نحو اختيار خليفة للمفتي يكون قادراً على حمل الأعباء الثقيلة الملقاة على عاتقه، وفي ذلك مصلحة قصوى لتحصين الموقع والمؤسسات، ولمنع محاولات الاصطياد في الماء العكر، ولا سيّما مع تعاظم الاهتمام السوري بهذا الملفّ، وعلى أكثر من مستوىً وصعيد.
إقرأ أيضاً: الشيخ خليل الميس: الفقد والفقدان الكبيران
لا تتركوا أزهر البقاع، بل احتضنوه وساندوه وساعدوه. ولا تسمحوا بأيّ شكل من الأشكال أن يتشظّى تحت وابل الاشتباكات والتجاذبات الشخصية والسياسية. وعلى هامش هذا النداء، بل في صلبه، لا بدّ من التذكير بأنّ المفتي الراحل أعطى إشارات لا لبس فيها نحو الشخص الذي يثق به ويستخلفه على إرثه ومؤسساته ومشروع عمره، وقد كاد أن يزكّيه خليفة له، بعدما أوكله رسميّاً مهمّة إدارة الأزهر وتطويره والإشراف الكامل عليه، لكنّه على سجيّة سيّده ونبيّه محمّد، الذي لم يسمِّ أبا بكر لخلافته، بل أوكل إليه أن يؤمّ صلاة الجماعة بخيرة أصحابه وأبناء عمومته وعموم المؤمنين.