في ظلّ حراك أميركيّ-فرنسيّ استيعابيّ لردّة الفعل الخليجيّة حيال أزمة تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي، بقيت حكومة نجيب ميقاتي بمنأى حتّى الآن عن السقوط الكامل، من دون ظهور أيّ نتائج ملموسة بالمقابل لاتّصالات ميقاتي في باريس ولندن وصولاً إلى اسكتلندا التي وصل إليها أمس للمشاركة في فعّاليّات قمّة المناخ في غلاسكو.
تقول أوساط ميقاتي في هذا السياق: “هناك كارثة اقتصادية-سياسية قد لا تكون للبنان قدرة على تحمّلها، لذلك الحلّ الذي يُعمَل عليه أبعد من مسألة الاستقالة أو الإقالة لأنّنا، باعتراف طرفيْ المواجهة، أمام أزمة شاملة وعميقة”.
يجزم القريبون من رئيس تيار المردة: لم يوافق فرنجية على الاستقالة ولا حزب الله، وإن حصلت في مرحلة لاحقة فلن تكون مجّانيّة وتحت الضغط، والشروط ستقابلها شروط مضادّة
أمّا خليّة الأزمة فرفعت العشرة باكراً جدّاً، إذ تؤكّد مصادرها لـ”أساس”: “الأزمة باتت أكبر منّا ومن الخليّة التي تمّ تشكيلها، والاتصالات في شأنها تجري على مستوى عالٍ جدّاً”.
وبُعَيْد ساعات قليلة من دعوة بكركي ميشال عون ونجيب ميقاتي إلى “خطوة حاسمة تسحب فتيل تفجير العلاقات مع دول الخليج”، في مقابل دعوة مضادّة من حزب الله إلى “عدم الرضوخ للشروط الخليجية”، وما بينهما “تمنٍّ” ضمنيّ من رئيسيْ الجمهورية والحكومة باستقالة قرداحي لتخفيف الاحتقان، حَسَم الأمر وزير الإعلام من خلال تأكيده لقناة “الجديد” أمس أنّ استقالته “غير واردة”.
يؤكّد مطّلعون أنّ “هذا التوجّه المبدئي الذي رُمِي في الإعلام من دون استصراح الشخص المعنيّ مباشرة، أتى ضمن مظلّة أوسع، ويشير إلى احتدام المواجهة وبلوغها سقوفاً غير محسوبة النتائج، لأنّ استقالة قرداحي قد تدفع إلى استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة. أمّا في المقلب الآخر فهناك ما يُشبه الحرب الخليجية الضمنيّة على حكومة ميقاتي بوصفها حكومة إيران”.
يجزم القريبون من رئيس تيار المردة: “لم يوافق فرنجية على الاستقالة ولا حزب الله، وإن حصلت في مرحلة لاحقة فلن تكون مجّانيّة وتحت الضغط، والشروط ستقابلها شروط مضادّة. نحن نعلم أنّ الأزمة أكبر بكثير من مسألة تصريحات “ناموا عليها” إلى حين نشرها وفق توقيتٍ مدروسٍ يتلاءم مع قرار كبير قد اُتُّخذ بمواجهة حزب الله والفريق الحليف له. والطرف السعودي-الإماراتي يُجاهر بذلك”.
أمّا حزب الله فيؤكّد، وفق أوساطٍ قريبة منه، “وجود ضغوط من داخل الحكومة، وتحديداً عون وميقاتي، لاستقالة قرداحي، وضغوط من الخارج لن نذعن لها لأنّ هدفها الحصار والعزل وليس مجرّد الاعتراض على تصريحات وزير. ولذلك يجب أن تستمرّ الحكومة بطاقمها الحالي بعد حلّ المعضلة الأساسية المرتبطة بكفّ يد القاضي البيطار”.
في المقابل، بَرَز تعميم داخليّ لمنتسبي التيار الوطني الحر “بعدم التعليق إطلاقاً على الإجراءات المتّخذة من السعودية تجاه لبنان”، ثمّ أطلقت الهيئة السياسية في التيار نداءً بـ”ضرورة حصول مراجعة ذاتية وحوار صريح ومباشر مع السعودية والدول العربية”. وقال النائب العونيّ أسعد درغام في تصريح: “نحن نترك لقرداحي تقدير الوضع في شأن استقالته”.
والرئيس ميقاتي، الذي يُشارك في قمة التغيّر المناخي في اسكتلندا، ويسعى إلى عقد لقاءات دوليّة على هامشها، ستلفحه فور وصوله عاصفة قد لا تُبقي لا الأخضر ولا اليابس في ظلّ أزمة دبلوماسية على مستوى العلاقات مع دول الخليج لم يشهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه.
تقول أوساط ميقاتي في هذا السياق: هناك كارثة اقتصادية-سياسية قد لا تكون للبنان قدرة على تحمّلها
وقد أُعطِيت التعليمات الرئاسية لوزير الخارجية عبدالله بوحبيب، المعروف بعلاقته القوية مع الأميركيين، لتشكيل خليّة أزمة بهدف “رأب الصدع”، فتمّ الاستنجاد بالوسيط الأميركي الذي فَرَض لتوّه عقوبات على نائب مقرّب من حزب الله، وسبق ذلك إدراجه مؤسّسة “القرض الحسن” على لائحة العقوبات، وهو الطرف المعروف بانحيازه إلى وجهة النظر السعودية، ويتشارك مع الرياض القناعة بـ”سيطرة حزب الله الكاملة على مفاصل الدولة”، وما أزمة جورج قرداحي إلا أحد متفرّعاتها الثانوية والهامشية.
مع ذلك، تسلِّم مصادر مطّلعة بأنّ “الموقف الأميركي متمايز عن السعودي في مقاربة الأزمة الحالية، مع ضغطه لعدم سقوط الحكومة، وهو ما برز من خلال موقف وزارة الخارجية الأميركية الداعي إلى تواصل السعودية والإمارات مع الحكومة اللبنانية، والتذكير بدعم واشنطن المستمرّ لها”.
ويقول هؤلاء: “لقد مرّت خمس بواخر محمّلة بالنفط الإيراني نقلت حمولتها إلى لبنان عبر سوريا على مرأى من المسؤولين الأميركيين، وبادرت واشنطن إلى كسر قانون قيصر باستثناءات تسهِّل وصول الغاز الأردني والكهرباء عبر سوريا ضمن سياق الحذر من انزلاق لبنان أكثر صوب المحور الإيراني، فلا يمكن لتصريحات على مستوى وزير إعلام أن تغيِّر في مقاربتها الهادفة إلى إبقاء الأمور تحت السيطرة وعدم قلب الطاولة دفعة واحدة بما يتماهى مع التوجّه الإماراتي والسعودي. وهو توجّه ترسّخ من خلال إدارة الظهر بالكامل لحكومة ميقاتي، مع العلم أنّها من ضمن النقاط الخلافية بين واشنطن وفرنسا من جهة، والرياض من جهة أخرى”.
وقد أتت تصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان لتؤكّد هذا التمايز مع رفعه ورقة “تحرير لبنان من الهيكل السياسي الذي يعزّز هيمنة حزب الله”.
وفيما أكّد فرحان “عدم جدوى التعامل مع لبنان”، يقود هذا الواقع إلى الاستنتاج أنّ ثنائيّة عون-حزب الله باتت في المعطى السعودي-الإماراتي “هدفاً” في المرحلة المقبلة قد يكلّف لبنان أثماناً باهظة خطرها الأساس تكريس الانقسام الداخلي بين الفريق الداعم للمحور الإيراني والرافض له، وما بينهما تعطيل عمل الحكومة الذي قد يجرّ إلى تطيير الانتخابات ثمّ فرْض واقع تغييري يبدأ من رأس الهرم الرئاسي.
أمّا في الوقت الراهن فقرار عودة السفراء الذين سحبتهم دولهم من بيروت أو طردتهم من أراضيها هو غير وارد مع احتمال انضمام مزيد من الدول الخليجية لسحب سفرائها ومنع وصول الصادرات اللبنانية إليها، بالتزامن مع الحديث عن لائحة شروط خليجية تُصنَّف تلبيتها بالنسبة إلى حزب الله في خانة “الانتحار السياسي”.
وبدت إشارة فرنجية إلى عدم تسميته وزيراً آخر في حال استقالة قرداحي لافتةً جدّاً. فهي إمّا تعني تصعيداً من جانب فريق الممانعة، وإمّا في حال الاستقالة، التي ضَعُفَ احتمالها، ستطرَح إشكاليّة الجهة التي ستُسمّي، والتي ستكون رئيس الجمهورية أو وفق تسمية مشتركة بينه وبين رئيس الحكومة، وهو ما سيعيد ملفّ موازين القوى داخل الحكومة إلى الواجهة.
إقرأ أيضاً: ميقاتي باقٍ وفرنجية فتح باب الاستقالة لقرداحي
هذا وقد أثبتت أزمة تعليق الفريق الشيعي اجتماعات الحكومة، ربطاً بإيجاد حلّ لمعضلة تحقيقات القاضي طارق البيطار، أنّ “الميثاقيّة” هي السيف الحقيقي المُسلّط على رقبة حكومة ميقاتي، وهي الوجه الآخر لحسابات تتفاوت بتأثيرها بين القوى السياسية بحسب لونها الطائفي والمذهبي.