نصرالله وجعجع يتّفقان على “تحجيم” باسيل!

مدة القراءة 7 د

أمينٌ عامٌّ لحزبٍ لا تنقصه الحيلة، ولا يعوزه الإدراك ولا الفهم العميق للحالة اللبنانية وحساسيّتها الطائفية والمذهبية، ولا لمفاتيح الجذب وعوامل التنافر التي تشكّل المداميك الأولى في لعبة صناعة الرأي العامّ وسَوْق الجماهير، وهو لم يُلقِ خطاباً ارتجاليّاً أو متوتّراً، بل مُعَدّاً ومكتوباً، وبنبرة هادئة، وهذا يعني، في ما يعني، أنّ قراراً مركزيّاً اُتُّخذ لإعادة خلط الأوراق، وعلى رأسها قطعاً رسالة إلى جبران باسيل، على المستوى الشخصي وعلى مستوى حالته السياسية، في الانتخابات النيابية المقبلة، وتشريع الأبواب أمام حصد سمير جعجع للحصّة المسيحيّة الوازنة.

الجهة المسيحيّة الوحيدة القادرة على لجم جبران باسيل وليّ ذراعه مسيحيّاً هي القوات اللبنانية، وهذا يعني أنّ القوات التي تخاصم حزب الله قادرة على تصدّر المشهد المسيحي في العملية الانتخابية، لكنّها لن تكون قادرة على صرف هذه النتيجة على المستوى الوطني

قد يبدو هذا الكلام غريباً ومنفصلاً عن الواقع، وقد يظنّ الناظر إليه أنّه ضربٌ من الخيال أو الجنون، لكنّ الحقيقة تشي تماماً بخلاف ذلك. ولتأكيد هذه الفكرة وتدعيمها، لا بدّ من سَوْق مجموعة من الأسباب الموجبة التي دفعت حزب الله إلى الذهاب نحو اعتماد هذا الخيار.

أوّلاً: بات جبران باسيل يُشكّل عبئاً هائلاً على حزب الله بعدما استنزف كلّ حضوره السياسي والاجتماعي، واستحال شخصيّة شديدة النزق والتطلّب. وهو يعاني عزلة داخلية وإقليمية ودولية غير مسبوقة، ناهيك طبعاً عن تقلّص كبير في شعبيّته على الساحة المسيحية، وضمن التيار الذي رَأَسه بقوّة الأمر الواقع، وأقصى منه مئات الناشطين الذين طالما شكّلوا صورته العميقة والمكتنزة في الوجدان المسيحي.

ثانياً: أظهر باسيل مراهقة سياسية مضنية في مقاربة مختلف الملفّات المطروحة منذ وصول ميشال عون إلى سدّة الرئاسة، مساهماً على نحو مباشر في تدمير العهد الرئاسي برمّته، ومعجِّلاً في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، فضلاً عن التعاطي بتوتّر شديد وبفوقيّة نافرة مع غالبيّة الحلفاء الأساسيّين لحزب الله، وعلى رأسهم قطعاً نبيه برّي وسليمان فرنجيّة.

ثالثاً: عودة جبران باسيل بقوّة بعد الانتخابات المقبلة يعني أن لا أحد سيستطيع الوقوف بوجهه أو فرملة اندفاعته الرهيبة نحو كرسيّ الرئاسة الأولى، استناداً إلى معزوفة قديمة متجدّدة تتمحور حول حكم الأقوياء في طوائفهم، وهذا بطبيعة الحال سيشكّل حرجاً كبيراً لحزب الله، الذي قد ينساق مجدّداً إلى دعم ترشيحه وانتخابه.

رابعاً: سمير جعجع خصم لدود، وهو لا شكّ على طرف نقيض مع حزب الله، لكنّ ممارسته السياسية تكاد تكون مثاليّة على مختلف المستويات، إن لجهة حضوره في السلطة أو خروجه منها، وهو الأقرب دائماً إلى الخروج والاعتراض، وإلى اتخاذ مواقف مبدئيّة لا تنسجم على الإطلاق مع اللعبة السياسية البراغماتية، التي تقتضي التنازل والتسويات وتدوير الزوايا، وهذا ما لا يبرع فيه جعجع، ولا تبرع فيه القوات اللبنانية، ولذلك لن يكون إخراجها من اللعبة أو إدخالها فيها مرهقاً ومتعباً على الإطلاق، ولن يتحمّل حزب الله وزر الأثقال التي وضعها ميشال عون وجبران باسيل على كاهله.

خامساً: الجهة المسيحيّة الوحيدة القادرة على لجم جبران باسيل وليّ ذراعه مسيحيّاً هي القوات اللبنانية، وهذا يعني أنّ القوات التي تخاصم حزب الله قادرة على تصدّر المشهد المسيحي في العملية الانتخابية، لكنّها لن تكون قادرة على صرف هذه النتيجة على المستوى الوطني، حيث لن يكون متاحاً إيصال سمير جعجع إلى سدّة الرئاسة بفعل التوازنات النيابية ولعبة التحالفات والأرقام، لكنّ هذا التفوّق سيحول أيضاً دون مطالبة جبران باسيل بدعمه، على اعتبار أنّه ليس المسيحي الأوّل، وأنّه يتساوى مع سليمان فرنجية في حضورهما السياسي في المراتب التي تلي المرتبة الأولى، ولذا سيقتضي الوفاء دعم فرنجية، وهذا ما ألمح إليه السيّد نصر الله بشكل واضح وموارب في خطابه الأخير.

كلّ ما كان يريده سمير جعجع هو أن يُدرَج رسميّاً على لائحة أعداء حزب الله، ولم يكن ليتوقّع أن يُفرِد الأمين العامّ خطاباً كاملاً لهذا الإدراج، بعد فترة طويلة جداً من التجاهل المقصود واللامبالاة المدروسة، على الرغم من السقوف العالية التي طالما اعتمدها جعجع في المقارعة السياسية، والتي لامست حدود المواجهة اليومية والشاملة. وهو لم يفعل ذلك انطلاقاً من حسابات مغلوطة أو سوء تقدير، بل فعله وهو بكامل وعيه وهدوئه ومعرفته بأثر هذا الخطاب الناريّ على الوجدان المسيحي العامّ، والذي سيؤسّس حتماً لتقدّم مشابه لذاك الذي أحدثه ميشال عون عقب التحالف الرباعي.

يضاف إلى ذلك كلّه إصرار الأمين العامّ على تظهير صورته وكأنّه المدافع الأوّل عن المسيحيين الضعفاء في لبنان وفي سوريا وفي عموم المنطقة. وهذا الخطاب تحديداً يستفزّ الوجدان المسيحي ويستثيره، لأنّه يمسّ العصب الأساس لأدبيّات وجودهم التي قامت تاريخيّاً على فكرة المقاومة والنضال والرسوخ في الأرض، وعلى نزعتهم الدائمة للثورة على مَن يعاملهم أو يتعاطى معهم كأهل ذمّة، أو كمجموعات تحتاج إلى الحماية والمواكبة الدائمة في أحضان الآخرين.

وطبعاً هذا لم يكن خطأ في التقدير وقع فيه حزب الله وأمينه العامّ، بل دسٌّ للسمّ في العسل، وهو يعرف تماماً أنّ الردّ الأوّليّ على كلام مماثل، سيكون بالارتصاف شبه الجماعيّ في المحور المناهض، خصوصاً بعد التلويح المقصود والمدروس بمئة ألف مقاتل مدرّبين ومجهّزين ورهن الإشارة، وهذا ما يصيب المسيحيّين في صميمهم، ويدفعهم نحو مزيد من التكتّل تحت أفضل السقوف المتاحة لتحصين الحضور والوجود والكرامة، وثمّة في هذه الحالة سقف وحيد: سمير جعجع والقوات اللبنانية.

سلك حزب الله على مدى المرحلة الماضية درب البصم الدائم لحليفه المسيحيّ تحت سقف الاستفزاز والتهديد الدائم بإعادة النظر في ورقة التفاهم، وفرط التحالف الذي كان يعتبره حزب الله استراتيجيّاً وأساسيّاً، ولا سيّما في ضوء التحدّيات الهائلة التي كان يواجهها على المستويات كافّة.

وعليه، لم تكن الموافقة على انتخاب ميشال عون وتشريع فكرة الأقوياء في طوائفهم رغبةً من حزب الله بإنصاف المسيحيّين، كما أخبرنا الأمين العامّ في خطابه، بقدر ما كانت محاولةً لإعادة إحياء تحالف الأقليّات بوجه البحر السنّيّ في لبنان والمنطقة، وكان أيضاً لزوم الضرورة للمحافظة على الغطاء المصلحيّ الهجين الذي وفّره التيار الوطني الحرّ في ظلّ العزلتين الداخلية والخارجية اللتين كان يعيشهما حزب الله.

وانطلقت الموافقة على السير بالقانون الأرثوذكسي أيضاً من الضرورة نفسها، على الرغم من آثاره المدمّرة على الكيان اللبناني وعلى الحياة المشتركة بين اللبنانيين.

ساهمت هذه الممارسات بانفلاش وانتفاخ هذه الحالة السياسية المريضة التي جسّدها ميشال عون، وتسبّبت أيضاً بعدوى أصابت المزاج المسيحي العامّ، حيث بدا أنّ اللعب على وتر التوتّر السنّيّ الشيعيّ مفيد في تحصيل المكتسبات التي قال عنها جبران باسيل إنّها سُرِقت من المسيحيين بفعل الأمر الواقع الذي فرضه اتفاق الطائف، وهو طالما تعهّد باستعادتها كاملةً ومن دون أيّ نقصان، باعتبارها حقوقاً مسلوبة ومسروقة.

الآن تغيّر المشهد. التوتّر السنّيّ الشيعيّ يلفظ آخر أنفاسه. الحوار السعودي الإيراني، ثمّ اتفاق جنيف، “إذا حصل”، سيساهمان على نحو ملحوظ في خفض مؤشّر التوتّر والاشتباك في لبنان وعلى مستوى المنطقة. يُضاف الى ذلك العلاقة الممتازة والتناغم الواضح الذي وُلِد بين سعد الحريري وحزب الله، فضلاً عن العلاقة البراغماتية مع وليد جنبلاط، وهي ستبقى على حالها في الوقت الراهن وفي المدى المنظور، خصوصاً بعد إدراك جنبلاط وتسليمه بتحسين العلاقات وتطويرها مع حزب الله، وعزوفه عن أيّ رهانات من شأنها فتح باب المواجهة والاشتباك، وهذا الخيار بات خارج أجندته السياسية تماماً، وهو لن يعود إليه إلا وفق معطيات يستحيل توفّرها وفق الواقع القائم في المنطقة والعالم.

إقرأ أيضاً: نصر الله يفتتح الانتخابات: المعركة في الأرض المسيحيّة

في المحصّلة، ثمّة استعادة واضحة لتحالف رباعي سياسي، وربّما انتخابي في المرحلة المقبلة، وثمّة أيضاً قرار شبه جماعي بتقليص دور جبران باسيل في المعادلة السياسية، بعد انتفاخه وانتفاء الحاجة إليه. وثمّة أيضاً وأيضاً رابحٌ مع وقف التنفيذ اسمه سمير جعجع، سيربح الانتخابات، وسيحصد المرتبة الأولى مسيحيّاً، لكنّه بلا أدنى شكّ سيشاهد الاحتفالات بانتخاب رئيس جديد للجمهورية من مكتبه في معراب، من دون أن يكون له أيّ دور مقرّر.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…