أربعين يوماً كانت كلفة تعطيل حكومة سعد الحريري إثر حادثة قبرشمون في تموز 2019، التي انتهت بمصالحة جرت بين رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس الحزب الديموقراطي اللبناني طلال أرسلان في القصر الجمهوري برعاية رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي.
أحد بنود التسوية آنذاك كان إبقاء الباب مفتوحاً على إحالة حادثة قبرشمون، التي شهدث اشتباكاً مسلّحاً بين موكب الوزير السابق صالح العريضي ومناصري الحزب الاشتراكي، إلى المجلس العدلي.
لكن في حكومة نجيب ميقاتي أتى مطلب الفريق السياسي نفسه معاكساً تماماً من خلال الضغط لسحب ملفّ التحقيقات في قضيّة المرفأ من المجلس العدلي، وليس فقط كفّ يد القاضي طارق البيطار عن القضية. هنا لا مجال لأيّ مصالحة على الطريقة “العشائريّة” نفسها، فالملفّ ضخم ومتشعّب وله امتداداته الخارجيّة، وقد تحوّل تدريجيّاً إلى محطة حاسمة في مصير الحكومة وفي التحكّم بما تبقّى من ولاية العهد.
تفيد معلومات بأنّ رئيس الجمهورية يشترط اعتذار الوزير محمد مرتضى عن مطالعته الهجوميّة في جلسة مجلس الوزراء في 12 تشرين الأول، والتي وصفتها أوساط قريبة من بعبدا بـ”غير المسبوقة”
الفارق بين الحادثتين هو موقف الرئيس برّي والتيار الوطني الحرّ. لعب الأوّل آنذاك دور شيخ الصلح بين الفريقين، فيما لعِبَ جبران باسيل، من جهته، دور الضحيّة بتأكيد وجود كمين جرى الإعداد له خلال زيارته عاليه.
عمليّاً، لم “تتهنّ” حكومة الحريري باستئناف اجتماعاتها، فقد “بجّت” بوجهها “ثورة 17 تشرين”، وأُحيل الشيخ سعد إلى الغياب السياسي المبكر.
يتوجّس اليوم نائب الشمال ممّا هو أكبر بكثير من تسونامي 17 تشرين. فالألغام التي تزنّر السراي ليست أقلّ من فخاخ المرحلة السابقة. يكفي أنّ حكومته سجّلت رقماً قياسيّاً لم تسجّله أيّ حكومة أخرى بدخولها مدار التعطيل بعد أقلّ من 45 يوماً من صدور مراسيمها، فيما تجاوزت الضغوط الاقتصادية والماليّة والمعيشية الخطوط الحمر بالتزامن مع معارك سياسيّة فرعيّة تُهدّد التضامن المفترض بين أعضاء “حكومة الإنقاذ” التي باتت تحتاج فعلاً إلى مَن ينقذها من الشلل التامّ.
وفي هذا السياق، تفيد معلومات بأنّ رئيس الجمهورية يشترط اعتذار الوزير محمد مرتضى عن مطالعته الهجوميّة في جلسة مجلس الوزراء في 12 تشرين الأول، والتي وصفتها أوساط قريبة من بعبدا بـ”غير المسبوقة”، وقالت إنّها “لا تقطع بهذه السهولة” بوجود رئيس جمهورية مثل ميشال عون، وذلك بالتزامن مع الحلول التي يتمّ العمل عليها لسحب فتيل لغم البيطار من أمام حكومة ميقاتي.
لكن الوزير مرتضى أكّد لـ “أساس” أنّ “هذه المعلومات غير صحيحة إطلاقًا، ورئيس الجمهورية اتصل بي في اليوم التالي لجلسة مجلس الوزراء”، مذكّرًا “بمواقف سبق أن ادلى بها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بأنّ المطالعة التي أدليت بها خلال الجلسة تؤكّد حكمًا بأنّ هناك خطأ ما يعتري التحقيق في جريمة المرفأ”.
ويجزم مرتضى: “لن يكون هناك دعوة لمجلس الوزراء قبل أن تنتهي السلطة القضائية ووزير العدل من أداء دورهما وفق الصلاحيات المنوطة بهما لحلّ أزمة الأداء التي تشوب عمل التحقيق العدلي الذي يتهدّد سلامة التحقيق”.
في السياق نفسه، وردّاً على البيان الصادر أمس عن مجلس القضاء الأعلى بعد اجتماعه مع القاضي البيطار يقول مصدر وزاري لـ “أساس”: “استند المجلس على المادة 4 من قانون القضاء العدلي التي تشير إلى سهر مجلس القضاء الأعلى على حسن سير القضاء وكرامته واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم ويتّخذ القرارات اللازمة بهذا الشأن، ليشير ضمن البيان إلى تشدّده على العمل على إنجاز التحقيق بأسرع وقت ممكن وفق الأصول القانونية توصّلًا إلى تحقيق العدالة وتحديد المسؤوليات. وبهذا كأن المجلس يقول ضمنيًا أنّه رصد مسار التحقيق في ملف تحقيقات المرفأ، لكن النتيحة التي توصّل إليها هي فقط دعوته البيطار إلى الإسراع فقط في عمله. وبذلك هو ينسف كل ما يثار وبات موثّقًا عن شوائب تعتري التحقيق”.
يتصرّف ميقاتي ببرودة مطلقة مراهِناً على العمل المستمرّ للّجان الوزارية وخطّة التفاوض مع صندوق النقد الدولي التي لا تحتاج إلى انعقاد جلسات مجلس الوزراء
ووفق المصدر الوزاري يقود هذا الواقع إلى فرضيتيّن: إما المجلس لا يرى ما تراه رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والوزراء في الحكومة وشريحة كبيرة جدًا من الرأي العام والأحزاب المعنية بهذا الملف، وهذه مشكلة كبيرة. وإمّا أن المجلس قد لَمَس وجود شوائب وثغرات في التحقيق وخروج عن العمل القويم ويقول للمحقّق العدلي أكمل عملك وأنا أغطيك، وهنا أزمة أكبر. وبذلك نحن أمام مرجعية هي المسؤولة عن حسن سير العدالة لكنّها إمّا لا تقدّر خطورة الواقع وإمّا تتعامى عنه. وهذا ما يُثبِّت ما قيل أكثر من مرّة بأنّ البيطار لا “يشتغل” لوحده بل هناك جهة حاضنة قضائية تمنحه هذا الهامش في العمل”.
واليوم يكون قد مرّ أسبوعان على “كربجة” مجلس الوزراء بمطلب فريق أمل وحزب الله تنحية القاضي البيطار عن تحقيقات المرفأ، في ظلّ تصعيد أكبر للحزب باتّجاهين: بوجه المحقّق العدلي الذي دعا نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم صراحةً إلى “رحيله بعد تسبّبه بفتنة”، وبوجه القوات اللبنانية على خلفيّة أحداث الطيّونة – عين الرمّانة.
يحدث ذلك في مقابل ضغط مضادّ من القصر الجمهوري بضرورة “تحرير” أعمال الحكومة فوراً، انطلاقاً من واقع أنّ قضية تحقيقات المرفأ تُدرَس على مستوى مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل، وأحداث الطيّونة باتت بالكامل بعهدة القضاء العسكري بعد إحالة مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي الملفّ مع الموقوفين إلى قاضي التحقيق العسكري فادي صوّان. ولم يعدُ من داعٍ لتكبيل الحكومة فيما مجلس النواب نأى بنفسه بالكامل عن هذه الإشكالية ويتحرّك بحرّيّة، ويتّجه أيضاً إلى تثبيت التعديلات التي أُدخِلت على قانون الانتخاب بعد ردّها من قبل رئيس الجمهورية.
وتأتي هذه الإحالة ضمن مسار إلزامي. إذ يحيل مفوّض الحكومة الادّعاء إلى قاضي التحقيق الأول (حالياً القاضي صوان بالإنابة منذ استقالة القاضي رياض أبو غيدا) الذي إمّا يبقيه في دائرته أو يحيله إلى أحد قضاة التحقيق. وتكتسب الإحالة رمزيّة سياسيّة لأنّ صوان تمّت تنحيته بقرار قضائي بناءً على دعوى نقل بسبب الارتياب المشروع من قبل الفريق السياسي الذي هو اليوم طرف أساسيّ في أحداث الطيّونة.
وعلى الرغم من ارتفاع منسوب الغليان على كلّ المستويات، يتصرّف ميقاتي ببرودة مطلقة مراهِناً على العمل المستمرّ للّجان الوزارية وخطّة التفاوض مع صندوق النقد الدولي التي لا تحتاج إلى انعقاد جلسات مجلس الوزراء، والوقت “الميّت” حكوميّاً الذي سيتيح له فكفكة عِقَد العديد من الملفّات، وعلى رأسها التعيينات، بالإضافة إلى استكمال جدول زياراته الخارجيّة كالزيارة التي قام بها أمس للعراق يرافقه المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم.
إقرأ أيضاً: عن التاريخ “الأسود”… للمجلس العدلي
وخلال وجوده في العراق تبلّغ ميقاتي بقيام مديريّة الاستخبارات بتبليغ رئيس حزب القوات سمير جعجع لصقاً بالحضور إلى فرع التحقيق في وزارة الدفاع غداً عند التاسعة صباحاً للاستماع إلى إفادته في أحداث الطيّونة – عين الرمّانة. وهو تطوّر من شأنه أن يعقّد مسار القضية، خصوصاً في ضوء ما قالته مصادر مطّلعة من أنّ “معطيات استجدّت في تحقيقات الطيّونة ستقلب الصورة رأساً على عقب، ويمكن أن تكون لها تداعيات سلبية على المسار السياسي المتأزّم أصلاً”.