عن التاريخ “الأسود”… للمجلس العدلي

مدة القراءة 7 د

في الكواليس المُغلقة يكثُر الحديث، من ضمن السيناريوهات المطروحة لحلّ أزمة التحقيق العدلي في قضية المرفأ، سَحْب مجلس الوزراء مرسوم إحالتها إلى المجلس العدليّ.

في السياسة تبدو الأمور غير ناضجة في ظلّ ممانعة رئاسية في بعبدا والسراي لهذا التوجّه الذي يؤسّس لسابقة ستكون الأولى من نوعها، لكنّ تطوّر الأحداث شرّع كبس زر العودة إلى الوراء. هل المجلس العدليّ هو الحاضنة الآمنة لهذا النوع من الجرائم؟

على مدى عقود بقي مطلب إحالة جرائم معيّنة إلى المجلس العدليّ قائماً، واستمرّت السياسة تتحكّم فيه، وذلك على الرغم من العجز الفاضح في استكمال التحقيقات في الغالبيّة العظمى من الجرائم المُحالة إليه

لم تقدّم تجربة المجلس العدليّ، منذ إنشائه وبعد إدخال تعديلات على نصوصه، ما يمكن أن يُطمئِن إلى أنّ التحقيقات في انفجار المرفأ بأيادٍ أمينة.

ما يقوم به المجلس الذي أُسِّس في عشرينيّات القرن الماضي في زمن الحكم الفرنسي، يُمكن عمليّاً لأيّ محكمة، كالجنايات أو المحكمة العسكرية، مثلاً، حتّى لو كانت محكمة استثنائية، أن تقوم به، والأرجح في وقت أقلّ، والأكيد بقدر أقلّ مِن السياسة.

يكفي أنّ للحكومات سلطة استنسابيّة بإحالة ما ترتئيه مناسباً من الجرائم إليه، بمعزل عن أيّ تقويم جدّيّ لمدى ملاءمة هذه الإحالات قانونيّاً وأهليّتها أو عدالتها أو فعّاليّتها في كشف الحقيقة.

هناك سلّة خيارات بين القضاء العدليّ أو القضاء العاديّ أو المحكمة العسكرية، وكلمة الفصل تعود إلى القرار السياسي وليس إلى أيّ اعتبار قانونيّ أو قضائيّ.

هكذا يُفهَم إصرار فريق التيار الوطني الحر على إحالة حادثة قبرشمون إلى المجلس العدليّ، ورفض فريق سياسيّ كبير لهذا الأمر. سوّق جبران باسيل لفرضيّة الكمين وكبّر الحجر لإحالة القضية إليه، مع أنّ التحقيقات أكّدت استبعاد هذه الفرضيّة. عمليّاً، يمكن الافتراض أنّه لو كانت موازين القوى لمصلحة ميشال عون وباسيل لم يكن هذا المطلب ليسقط بالضربة السياسية.

الكارثة الكبرى هي الحرص الفضائحيّ على تعيين محقّق عدليّ من “لون” الضحيّة نفسها. في جريمة المرفأ الضحايا من كلّ الطوائف، ومن المدنيّين والعسكريّين، ومع ذلك أُعطِيت الجريمة “لوناً” طائفيّاً مقيتاً 

كانت دائماً السياسة وتداعيات الجريمة على الرأي العام العامل الأكثر تأثيراً في تقرير الإحالة من عدمها، فيما المحقّق العدليّ نفسه هو نتاج خيار وزير العدل، أي السلطة السياسية، بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى. لكن لا معايير موضوعيّة محدّدة في اختيار أيّ قاضٍ لهذا الموقع.

الكارثة الكبرى هي الحرص الفضائحيّ على تعيين محقّق عدليّ من “لون” الضحيّة نفسها. في جريمة المرفأ الضحايا من كلّ الطوائف، ومن المدنيّين والعسكريّين، ومع ذلك أُعطِيت الجريمة “لوناً” طائفيّاً مقيتاً بدأ باختيار قضاة مسيحيّين لتولّي المهمّة، وانتهى بإحالات دعاوى ردّ القاضي “المسيحيّ” طارق البيطار إلى قضاة في غرف التمييز من الطائفة نفسها، وكان مصيرها الرفض.

والأهمّ أنّ قضايا حسّاسة بحجم انفجار المرفأ تُوضع بيد قاضٍ واحد مع صلاحيّات هائلة… يجدر فعلاً السؤال في هذه الحالة عن مقدار العدالة المتوافرة في قرارٍ اتّهاميّ يصدر عن شخص وسط ضغوط قاسية من أكثر من طرف وعشرات آلاف الأوراق والمستندات والإفادات.

وللإشكاليّات المحيطة اليوم بأداء القاضي البيطار وبتجاوزه نصوص القانون والدستور مسبِّباتٌ تكمن في الصلاحيّات الواسعة المعطاة لقاضٍ واحدٍ التي تمكِّنه من عدم التقيّد بمدّة التوقيف التي ينصّ عليها القانون في القضاء العاديّ، بحيث يستطيع إبقاء المتّهم موقوفاً لسنوات ومن دون محاكمة، ويُصدِر كلّ المذكّرات من دون الرجوع إلى النيابة العامّة التمييزية، ويستطيع الادّعاء على أيّ شخص من دون أن يستمع إليه، و”يفصل” في النزاع بالصلاحيّات وفق منظاره الخاصّ، تماماً كما حدث حين قرّر أنّ الاتّهامات الموجّهة إلى عدد من الوزراء السابقين غير مرتبطة بواجباتهم الوظيفية، ولذلك لا يخضع هؤلاء للملاحقة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

وتُعتبر قرارات المجلس العدليّ غير قابلة لأيّ طريق من طُرق الطعن أو المراجعة بعكس قاعدة الدرجات الثلاث المعتمدة في القضاء العاديّ.

ولكن بعد الجريمة التي حُكِم فيها على الفلسطيني يوسف شعبان بالسجن المؤبّد في جريمة اغتيال الدبلوماسي الأردني عمران المعايطة، وتبيّن لاحقاً أنّه بريء بعد كشف السلطات الأردنية عن الجناة، عُدِّلت المادة الـ366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، بحيث أصبح بالإمكان تقديم الاعتراض على أحكامه، وإعادة المحاكمة أمام المجلس العدليّ نفسه.

أكثر النماذج تسييساً في توقيت صدور الأحكام عن المجلس العدلي فهو إصدار هيئة المجلس العدليّ حكمها في قضيّة اغتيال الرئيس بشير الجميّل في نهاية 2017، وقد قضى بالإعدام بحقّ حبيب الشرتوني ونبيل العلم

وعلى مدى عقود بقي مطلب إحالة جرائم معيّنة إلى المجلس العدليّ قائماً، واستمرّت السياسة تتحكّم فيه، وذلك على الرغم من العجز الفاضح في استكمال التحقيقات في الغالبيّة العظمى من الجرائم المُحالة إليه.

هي سلسلة طويلة من الجرائم التي لم يصل فيها المجلس العدلي إلى مكان، وتحديداً جرائم الاغتيالات السياسية، بدءاً من كمال جنبلاط إلى رينيه معوّض، إلى المفتي الشهيد حسن خالد مروراً بتغييب الإمام موسى الصدر، ووصولاً إلى الجرائم المرتكبة بعد 2005 وسلسلة الجرائم الإرهابية التي لا يزال العديد من ملفّاتها نائماً في جارور المجلس العدليّ، فيما بعضها لم يشهد أيّ توقيفات.

وقد أُحيلت بعض القضايا إلى المجلس العدلي من دون مبرّر واضح كجريمة قتل الأخوين غسان وجليل أنطونيوس عام 1992 بقصد السرقة. إلا أنّ قرار مجلس الوزراء استند إلى الخشية من إثارة الجريمة النعرات الطائفية وخوف المواطنين المسيحيين في مناطق المتن الجنوبي من تكرار جرائم مماثلة. وأُحيل أيضاً الاعتداء الذي وقع على السفارة الروسية في بيروت عام 2000، على الرغم من أنّ التحقيقات أثبتت أن منفّذ الاعتداء لم يكن عضواً في مجموعة مسلّحة أو إرهابية، بل تحرّك من تلقاء نفسه نتيجة “تأثّره بما يجري في الشيشان”. وأُحيلت على المجلس العدليّ الجريمة التي وقعت عام 2002 في مركز صندوق تعويضات أفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصّة، والتي أودت بحياة عدد من المواطنين.

وضمن السياق الاستنسابيّ أحالت حكومة فؤاد السنيورة الأولى جريمة قتل الزيادين (زياد غندور وزياد قبلان) في جدرا بالشوف عام 2007 على المجلس العدلي، فيما تركت الجرائم التي وقعت يوم أحداث الجامعة العربية في العام نفسه في عهدة القضاء العاديّ، علماً بأنّ الجريمتين كانتا مترابطتين على خلفيّة ثأريّة.

ولا يزال فريق سياسي كبير يتساءل اليوم عن سبب عدم إحالة ملفّ شهود الزور في قضيّة اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى المجلس العدليّ، في حين أنّ الرئيس سعد الحريري أكّد، في تصريحه الشهير إلى “الشرق الأوسط”، أنّ “الشهود ضلّلوا التحقيق، وألحقوا الأذى بسوريا ولبنان، وبنا نحن عائلة الرئيس الشهيد، وخرّبوا العلاقة بين البلدين، وسيّسوا الاغتيال”.

إقرأ أيضاً: البيطار مُتّهَماً بـ”التسييس”: متى تُكفّ يدُه؟

أمّا أكثر النماذج تسييساً في توقيت صدور الأحكام عن المجلس العدلي فهو إصدار هيئة المجلس العدليّ حكمها في قضيّة اغتيال الرئيس بشير الجميّل في نهاية 2017، وقد قضى بالإعدام بحقّ حبيب الشرتوني ونبيل العلم، وذلك من ضمن مناخات التسوية الرئاسية بعد نحو عام من انتخاب ميشال عون وتحت وهج المصالحة المسيحية.

أمّا المدّة الزمنيّة لصدور الأحكام فتتكلّم عن نفسها، حيث استغرق صدور قرار المجلس العدليّ في قضيّة الشرتوني 35 عاماً، وفي ملفّ اغتيال القضاة الأربعة على قوس محكمة الجنايات في قصر عدل صيدا القديم في عام 1999 عشرين عاماً، وفي جريمة تفجير مسجديْ التقوى والسلام في طرابلس في 23 آب 2013 خمس سنوات.

مواضيع ذات صلة

بين لاريجاني وليزا: الحرب مكَمْلة!

دخلت المرحلة الثانية من التوغّل البرّي جنوباً، التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، شريكة أساسية في حياكة معالم تسوية وقف إطلاق النار التي لم تنضج بعد. “تكثيفٌ”…

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…