قد يكون من الصعب المرور على تصريحات علي أكبر ولايتي، المستشار السياسي للمرشد الأعلى للنظام الإيراني، بأنّ العلاقة بين إيران والعراق “لا مثيل لها وعميقة”، مرور الكرام، خصوصاً أنّها تأتي بعد لقاء جمعه ورئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي الذي تحوّلت مدّة حكومته إلى مأزق حقيقي للدور الإيراني في هذا البلد، خصوصاً بعد اتّهامها بالتورّط في قتل المتظاهرين في ساحات الاعتصام الذي انطلق في الأول من تشرين الأول 2019، وانتهائها إلى الاستقالة التي مهّدت الطريق أمام وصول مصطفى الكاظمي الذي كان خياراً تسوويّاً للخروج من أزمة الفراغ في السلطة.
تكشف مواقف ولايتي، خصوصاً تلك المتعلّقة بالساحة العراقية، عن وجود فجوة في فهم طبيعة المجتمع العراقي، فضلاً عن العجز عن فهم الشخصية السياسية العراقية وتقلّباتها التي تضعها على طرفيْ نقيض مع توجّهات ورؤية أيّ حليف لها، بحيث لا تتردّد هذه الشخصية في دفعه إلى حافّة الخسارة من أجل مصالحها الضيّقة.
استطاع الصدر أن يوظّف عدد المقاعد البرلمانية بدقّة عالية، لم تستطع معها كلّ الجهود التي بذلتها القوى الشيعية الأخرى المحسوبة على إيران أن تشكّل تهديداً حقيقياً له
في عام 2018، وقبل إجراء الانتخابات البرلمانية العراقية، زار ولايتي العراق والتقى جميع المسؤولين الرسميين من مختلف المكوّنات والفصائل. وقد تزامنت هذه الزيارة مع تحرّكات شعبية قام بها الشارع الصدري المتحالف في حراكه مع القوى المدنية والعلمانية، حاصرت المنطقة الخضراء في بغداد، ورفعت شعاراً يطالب بإخراج قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني من العراق. فكان ذلك دافعاً لولايتي إلى أن يرفع سقف الموقف الإيراني العدائي من القوى المدنية بتأكيده أن لا مكان للعلمانيين في العملية السياسية ومستقبل العراق السياسي والسلطوي.
لكنّ النتائج، التي خرجت بها الانتخابات المبكرة، وما أسفرت عنه من انهيار منظومة قوى الإسلام السياسي الشيعية تحديداً، كشفت هشاشة قواعد هذه القوى الشيعية وعدم قدرتها على تقديم خطاب مقنع، فضلاً عن انزلاقها في سلوكيّات سياسية وإدارية واجتماعية كرّست المحاصصة والتقاسم والمصادرة، التي لا تقتصر عليها فقط، بل تتشارك فيها مع جميع المكوّنات، إلا أنّها تتحمّل النسبة الكبرى من المسؤولية لأنّها المكوّن الأكبر القابض على السلطة التنفيذية والمتحكِّم بالقرار السياسي والاستراتيجي للدولة العراقية ومؤسّساتها.
لم تقف تداعيات هذا التصدّع، الذي أصاب القوى السياسية الشيعية وفصائلها ذات الطابع العسكري، عند حدود هذه القوى وموقعها على الخارطة السياسية العراقية، بل أصابت تردّداته الموقف الإيراني ودوره على هذه الساحة، وأربكته، بحيث وضعته أمام مخاطر الخسارة الاستراتيجية، التي قد تدفعه إلى إعادة النظر في أدوات تعامله مع هذه الساحة وآليّات الحفاظ على مواقعه والدفاع عن مصالحه التي باتت في دائرة التهديد. وقد تدفعه أيضاً إلى الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها في التعامل مع الحراك الشعبي الناقم على الأوضاع التي وصل إليها العراق، والفساد والإفساد اللذين تورّطت فيهما هذه القوى والجماعات والفصائل على حساب الدولة ومؤسساتها ومصالح الطبقات الشعبية، ومصادرتها مصالح الدولة متسلّحة بنظام المحاصصة الذي كرّسته على مدى السنوات الماضية.
قد لا تكون النتائج التي حصلت عليها القوى الحليفة لإيران وفصائل الحشد الشعبي في الانتخابات ظالمةً إلى حدٍّ كبيرٍ، إلا أنّها تكشف عن حجم التمثيل الحقيقي لهذه القوى الشعبية، بغضّ النظر عن تراجع المشاركة في الاقتراع. فما حصلت عليه من أصوات ومقاعد برلمانية لن يغيّر من حقيقة القاعدة الشعبية لهذه القوى، التي تُعتبر قاعدة عقائدية ملتزمة لا تتأثّر بالمتغيّرات وارتفاع المشاركة أو تراجعها. خصوصاً أنّ هذه القوى والفصائل لم تقصِّر في التحشيد الديني والعقائدي للناخب العراقي الملتزم بالفتوى والتكليف الشرعيّ. وهي قاعدة تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ القاعدة الشعبية للتيار الصدري، الذي يقوده مقتدى الصدر، لجهة الالتزام بالفتوى، إلا أنّها لم تستطع أن تتحوّل إلى ظاهرة تنافس الظاهرة الصدرية التي استطاعت الحفاظ على عمقها الشعبي على الرغم من كلّ التقلّبات التي مرّ بها العراق والتيار، وبقيت ملتزمة بتأييدها للصدر. وبالاعتماد على معرفته لحجم وتأثير هذه القاعدة، وجّه الصدر رسائل مباشرة وواضحة بأنّ مصير العملية السياسية والبرلمانية في المرحلة المقبلة ستكون في قبضته، وأنّه هو الذي سيقرّر اتّجاهاتها. وكان له ما أراد، وإن لم يكن بالحجم والعدد اللذين استهدفهما. لذا سمحت له 73 مقعداً برلمانيّاً بأن يكون صاحب الحقّ بالكتلة الكبرى، مع ما يستتبع ذلك من حقّ في تسمية رئيس الوزراء الجديد.
فقد استطاع الصدر أن يوظّف عدد المقاعد البرلمانية بدقّة عالية، لم تستطع معها كلّ الجهود التي بذلتها القوى الشيعية الأخرى المحسوبة على إيران أن تشكّل تهديداً حقيقياً له على الرغم من إعلانها تجميع أكثر من 90 مقعداً أو صوتاً في إطار تفاهمات بينيّة عقدتها قبل إعلان النتائج النهائية، وهدفها مواجهة صعود الصدر وكتلته مع ما في ذلك من تراجع قدرتها على فرض شراكتها في القرار السياسي بشكل فاعل.
في المقابل، يشعر الصدر، وإن كان يراقب تحرّكات ومساعي الفريق المقابل، بكثير من الارتياح إلى موقعه ودوره في رسم مستقبل العملية السياسية، وإلى أنّ هذه القوى، وإن حاولت القفز فوق نتائج الانتخابات وعقدت تحالفات لمحاصرته، فإنّها لن تكون قادرة على السير في تركيب السلطة السياسية من دونه ومن دون الأخذ بعين الاعتبار الحجم الذي يمثّله سياسياً وشعبياً. ولن يكون استبعاده أو إخراجه من العملية السياسية بالأمر السهل. بل قد يأخذ المشهد إلى مناطق لا يتردّد الصدر في التحذير منها ومن مخاطر الوصول إليها.
إقرأ أيضاً: العراق.. بدء البحث عن تسويات
أمام هذه التقاطعات والتداخلات التي يمرّ بها البيت الشيعي، قد تجد طهران متنفّساً لتخفيف الضغط الآتي من العراق، وقد تسمح لها نتائج الانتخابات بإعادة ترميم دورها، وبأن تدفع باتّجاه إرساء حلول وسطيّة بين طرفيْ الأزمة في البيت الشيعي، تؤسِّس لرؤية جديدة في التعامل مع الساحة العراقية لا تمرّ فقط من بوّابة الفصائل والقوى المؤيّدة لها والمحسوبة عليها، بل تنظر إلى الفضاء العراقي بكلّ تنوّعاته ومكوّناته المذهبية والعرقية والمدنية والعلمانية.
لذلك قد لا يكون مستبعداً أن تستقبل العاصمة الإيرانية في الأيام المقبلة وفوداً من جميع الأطراف، خصوصاً التيار الصدري، لوضع مخارج لهذه الأزمة، ومنع العراق من الانزلاق إلى دائرة العنف والتفلّت الأمنيّ.