تقاذفت بعبدا واليرزة كرة نار تعديل المرسوم الـ6433. في بعبدا واليرزة، لم يسمَع الوسيط الأميركي في ملفّ ترسيم الحدود والمبعوث الأميركيّ لشؤون الطّاقة عاموس هوكشتاين سوى تنصّلٍ من مشروع تعديل المرسوم، وغادرَ لبنان من دون أن يكتشف حقيقة مَن يقف خلف هذه الخطوة.
في القصر الجمهوريّ كان الرّئيس عون يستقبله وفي باله العقوبات المفروضة على النّائب جبران باسيل، وسطَ اعتراضات من جمهور حزب الله على نشأة هوكشتاين الإسرائيليّة، وخدمته في صفوف الجيش الإسرائيلي لـ3 سنوات، شارك خلالها في عمليّة “تصفية الحساب” ضدّ جنوب لبنان.
مصادر بعبدا لـ”أساس” إنّ الإيجابيّة الطّارئة في الملفّ سببها تقاطع إرادة لبنان والوسيط الأميركيّ على الإسراع في إنجاز التّرسيم. ولم تستبعد أن يقوم الوسيط بجولات مكّوكيّة بين بيروت وتل أبيب لتقريب وجهات النّظر وتذليل العقبات قبل العودة إلى جلسات التّفاوض
وبحسب مصادر معنية، قالَ الرّئيس عون لهوكشتاين إنّ قرار لبنان المُتعلّق بترسيم الحدود على أساس الخط الـ29، الذي يُغيِّر المساحة المُتنازع عليها من 860 إلى 2200 كلم2، مبنيٌّ على دراسات تقنيّة أعدّتها قيادة الجيش اللبنانيّ. وأكّد للمبعوث الأميركيّ أنّ المرسوم الـ6433 لَحظَ إمكانيّة تعديله في حال وجودِ أخطاء في الدّراسات التّقنيّة اللبنانيّة.
أمّا في اليرزة فقد كانت قيادة الجيش واضحة وصريحة مع هوكشتاين: “دورنا تقنيٌّ بحت، وأيّ نقاش آخر يتعلّق بمفاوضات ترسيم الحدود يكون مع السّلطة السّياسيّة وليس مع الجيش”.
في هذا الإطار، لم ينسَ الوسيط الجديد تكرار ما قالته وكيلة وزارة الخارجيّة للشّؤون السّياسيّة فيكتوريا نولاند، التي زارت لبنان قبل أيّام، وقبلها سلفها ديفيد هايل في شهر نيسان الماضي: “إنّ موضوع تعديل المرسوم الـ6433 ليسَ في مصلحة لبنان ولا يخدمه في حلّ أزمته الاقتصاديّة والماليّة”. وذكّرَ هوكشتاين المسؤولين اللبنانيين أنّ تل أبيب قد تلجأ إلى المطالبة على طاولة المفاوضات بخطٍّ يصل إلى قبالة سواحل مدينة صيدا في حال أصرّ الجانب اللبناني على مساحة الـ2200 كلم مربّع. وهذه هي العصا. أمّا الجزرة فعنوانها “الإعفاء الرّسميّ من عقوبات قيصر لاستجرار الغاز المصريّ والكهرباء الأردنيّة”. فقد أبلغ المسؤولين اللبنانيين أنّه سيتوجّه من بيروت إلى العاصمة المصريّة لإبلاغ المعنيّين هناك بقرار إدارته، على أن يتوجّه من القاهرة إلى إسرائيل لاستكمال مهمّته.
بعبدا وعين التّينة: الأجواء إيجابيّة
قالت مصادر بعبدا لـ”أساس” إنّ الإيجابيّة الطّارئة في الملفّ سببها تقاطع إرادة لبنان والوسيط الأميركيّ على الإسراع في إنجاز التّرسيم. ولم تستبعد أن يقوم الوسيط بجولات مكّوكيّة بين بيروت وتل أبيب لتقريب وجهات النّظر وتذليل العقبات قبل العودة إلى جلسات التّفاوض.
وحدَه الرّئيس نبيه برّي، المُتمسّك بـ”اتفاق الإطار”، كان في الوضعيّة المُرتاحة في اللقاء مع المبعوث الأميركيّ. وتصفُ مصادر عين التّينة لـ”أساس” زيارة هوكشتاين بـ”الإيجابيّة”، وقد تُثمر قريباً عن عودة جلسات المُفاوضات غير المُباشرة بين لبنان وإسرائيل لاستكمال ترسيم الحدود بـ”عقلانيّة”.
وتؤكّد مصادر الرّئاسة الثّانية أنّ برّي لا يزال مُتمسّكاً باتفاق الإطار كمرجعيّة لأيّ عودةٍ إلى المسار التّفاوضيّ. وحظِيَ هذا الموقف بترحيب الضّيف الأميركيّ. ونفَت المصادر كلّ ما نُقِلَ عن طرحٍ حمله هوكشتاين لتأسيس شركات وتقاسم الثروات البحريّة بين لبنان وإسرائيل، مؤكّدةً الطّابع الاستكشافيّ لزيارته الأولى.
مصادر معنية، قالَ الرّئيس عون لهوكشتاين إنّ قرار لبنان المُتعلّق بترسيم الحدود على أساس الخط الـ29، الذي يُغيِّر المساحة المُتنازع عليها من 860 إلى 2200 كلم2، مبنيٌّ على دراسات تقنيّة أعدّتها قيادة الجيش اللبنانيّ
نقاط ضعف لبنان
الإجابات التي سمعها هوكشتاين ممّن التقاهم، وفيها أنّ تعديل المرسوم الـ6433 “صارَ من الماضي”، بدت كافية لإعادة الأمور إلى حيث توقّفت في أيّار 2020، في محاولة لجمع الوفدين اللبنانيّ والإسرائيليّ تحت مظلّة النّاقورة مجدّداً.
ففي المحصّلة، خسر لبنان معركة “شبعا البحريّة”. هذه خُلاصة الجولة الاستطلاعيّة التي قام بها الوسيط الأميركي في ملفّ ترسيم الحدود عاموس هوكشتاين في العاصمة بيروت الأربعاء. وأسباب الهزيمة خمسة:
أوّلاً: تخبّط الموقف اللبنانيّ بعد إحالة رئيس الوفد اللبنانيّ العميد الرّكن بسّام ياسين إلى التقاعد، إذ ظهرَت عقدة لبنانيّة تتمثّل برفض الرّئيس ميشال عون تمديد مهمّة العميد المُتقاعد التّفاوضيّة، قبل أن يعودَ الكلام عن حلّ هذه العقدة باستدعاء العميد ياسين من الاحتياط.
وتجدر الإشارة إلى أنّ النّائب جبران باسيل كان قد طرح تشكيل وفدٍ تقنيٍّ – سياسيٍّ مهمّته التفاوض مع إسرائيل وسوريا بشأن ترسيم الحدود. فيما يرفض الثّنائيّ الشّيعي إضفاء أيّ طابعٍ سياسيٍّ على الوفد المُفاوض لإسرائيل.
ثانياً: يتمسّك الرّئيس نبيه برّي بمبدأ الالتزام باتفاق الإطار، الذي لا يلحظ تحديد مساحة للمنطقة المُتنازع عليها، بل يؤكّد الترسيم وفقَ القوانين والمبادئ الدّوليّة. ولذا طرح تعديل المرسوم الـ6433 من جانب رئاسة الجمهوريّة، وتوسيع نطاق المنطقة الاقتصاديّة اللبنانيّة، ثمّ سحبه من التداول أو حتّى التراجع عنه أو التراجع عن المساحة المُقرّرة بـ2200 كلم2، سيُشكّل خسارة سياسيّة للبنان أمام إسرائيل.
ثالثاً: لم يتغيّر الموقف الأميركي لجهة تنقيب لبنان عن النّفط في المناطق غير المُتنازع عليها. إذ لا تزال واشنطن تُصرّ على أنّه لا يُمكن السّماح للبنان باستخراج سنتيمتر مكعّبٍ من الغاز الطبيعي قبل إنجاز ترسيم الحدود مع الجانب الإسرائيلي. وهو الموقف نفسه للإدارة الأميركية السابقة.
رابعاً: لجأ الجانب الإسرائيلي قبل أشهرٍ إلى تلزيم مهمّة التنقيب في المنطقة المتنازع عليها مع لبنان إلى شركة “هاليبرتون” الأميركيّة بعدما كانت المُهمّة موكلة إلى شركة “إنرجين” اليونانيّة – الإسرائيلية. ومع بدءِ الشّركة الجديدة بأعمال التنقيب منذ أواخر شهر أيلول الماضي، يعجز لبنان عن إيقاف عملها بسبب الامتناع عن التوقيع على تعديل المرسوم الـ6433، وهو ما يُشكّل خسارة سياسيّة أخرى للبنان. “أمّا في حال فكّر الجانب اللبنانيّ باللجوء إلى وسائل “غير سياسيّة” لإيقاف أعمال التنقيب، فسيجد نفسه في مواجهة ليست لمصلحته مع الولايات المُتّحدة”، بحسب مصدر أميركيّ مسؤول.
خامساً: تستفحل الأزمة الاقتصاديّة في لبنان، فيما تلجأ تل أبيب إلى الاستفادة من الغاز الطبيعي الكامن في البحر المُتوسّط قبالة السواحل المُحتلّة. وتُصرّ مصادر أميركيّة مسؤولة على أنّ لبنان يضيّع الفرصة تلوَ الأخرى للخروج من أزمته الماليّة، وتشيرُ إلى أنّ اللبنانيين لا يملكون “ترف الوقت” ليضيّعوه في حساباتهم السّياسيّة الدّاخليّة. هذا الكلام سمعه مسؤولون لبنانيّون من الوفد المُرافق لهوكشتاين، الذي ضمّ خبراء اقتصاديّين من وزارة الخارجيّة الأميركيّة شرحوا بالتفصيل الفوائد التي ينالها لبنان بعد إنجاز قضيّة ترسيم الحدود.
إقرأ أيضاً: عون يطلق “شبعا البحرية”: توقيع وزير الأشغال باطل
بالطبع يُدركُ لبنان أنّه يُفاوض الإسرائيليين بوساطة هوكشتاين ذي الهوى الإسرائيلي والهويّة الملتبسة. ولذلك نحن أمام شخصيّة قد لا تكون أقلّ قساوةً من مُساعد وزير الخارجيّة السابق ديفيد شينكر في حماية مصالح تلّ أبيب.
وقد بات واضحاً أنّ زيارته كانت استطلاعيّة، ظاهرها استكشافيّ، وباطنها جزرةٌ قبل العصا، سيُسافر بعدها هوكشتاين إلى تل أبيب، على أن يعود في وقتٍ قريبٍ إلى لبنان ليحاول دفع عجلة التّفاوض بأسرع وقتٍ ممكنٍ على قاعدة: “لا يمتلك لبنان ترف الوقت، ولا ترف المال. فرسِّموا الحدود لتُنقذوا بلدكم”.