اتّصل بي مرّة الصديق هاني حمّود قائلاً: “دولة الرئيس الشيخ سعد يريد منك الذهاب إلى العميد وسام الحسن، والتعرّف عليه في مكتبه في المديريّة، وعند عودتك اتّصل بي”.
اتّصلت بالعميد الحسن مباشرةً، فقال لي: “أنا بانتظارك أهلاً وسهلاً”.
لم يكن وسام الحسن مجرّد رجل أمن، بل كان ظاهرة فيها كلّ التناقضات: صلابة الاستخبارات وطيبة الأخيار، ووديّة الأصدقاء وإنسانيّة البشر. كان الجميع في قوى الأمن الداخلي يتركون له المهمّات الصعبة
خلال نصف ساعة كنت في المديريّة، وفور دخولي مكتبه وقف مرحّباً، وتقدّم إلى الصالون المواجه لمكتبه قائلاً: تفضّل نشرب القهوة معاً، ثمّ ناولني سيجاراً لزوم الجلسة والحديث، وقال: “أتابع دائماً ما تكتب، الله يعطيك العافية”، ثمّ سألني: “ما هي هوايتك؟”، أجبته مبتسماً: “الكتابة والقراءة والنساء”. ضحك من قلبه، “أعجبني جوابك”، قلت له: “أدهشني سؤالك. شعرت أنّك الصحافيّ، وأنا ضيفك في حوار الأسبوع”، فضحك مجدّداً، ثمّ سألني: “هل تعرف هذا الرقم؟”. نظرت إلى الرقم، وأنا المعروف بقلّة حيلتي إزاء الأرقام، إذ لا أحفظها ولا أتذكّرها. منذ أيّام الدراسة وأنا عدوّ للأرقام ومادّة الرياضيّات، وما تجاوزت علامتي فيها الـ1 على 60. فقلت له: لا أحفظ الأرقام. قال لي: “اطلبه من هاتفك لعلّ اسم صاحبه يظهر بالفعل”. فطلبت الرقم من هاتفي، لكن لم يظهر أيّ اسم على الشاشة. انتظرت سماع صوت صاحب الرقم، الذي بادر بالقول بعد عدّة رنّات: “أهلاً ابن عمّي كيفك”. لقد كان صوت ابن عمٍّ لي، فاعتذرت منه، وقلت له: “بالخطأ طلبت الرقم”، سائلاً إيّاه عن “أحوال العمل والعائلة”، ثمّ أقفلت هاتفي. بادرني العميد الحسن بالقول: “لقد رصدنا اتصالاً له مع شخص في مخيّم عين الحلوة نشتبه فيه ونريد التحقيق معه، ولا نريد القيام بذلك بناءً على طلب الرئيس سعد الحريري إلا بالتنسيق معك وبإعلامك سلفاً بذلك”. وتابع حديثه قائلاً: “لماذا لم يتجنّب ابن عمّك الذهاب إلى عين الحلوة؟ ولماذا له صداقات في المخيّم؟ ولماذا أدخل نفسه في الشبهات؟”. قلت له: “الرجل يوزِّع الموادّ الغذائية على المحلّات كي يعيل عائلته. إلى أين يذهب؟ ذات مرّة تمّ الاعتداء عليه في الضاحية الجنوبية، وفي جونية وكسروان امتنع الكثيرون عن الشراء منه عندما علموا مذهبه وطائفته. وفِّر له وظيفة وأنا سأمنعه من الذهاب إلى عين الحلوة”.
كان وسام الحسن ضمانة لنا وللجميع. تحت الضغط يصبح الهادئ. وفي الدفاع عن الحقّ يستحضر شراسة الشرّير. ومع الإعلام تخاله زميلاً أو ربّما صديقاً
استأذنت بالخروج لإخبار العائلة وإبلاغ ابن عمّي أن يذهب إلى التحقيق برضاه. وهذا ما حدث، إذ حضرت دوريّة من فرع المعلومات إلى المصيطبة، حيث اجتمعت العائلة، بعد التنسيق مع قوى الأمن في المنطقة، ونقلته إلى المديريّة. بعد مرور ساعتين، اتّصل بي العميد الحسن، وقال لي: “أنهينا التحقيق وليس هناك أيّ شيء مهمّ. الصبي معترّ ويفتّش عن رزقه”.
لم يكن وسام الحسن مجرّد رجل أمن، بل كان ظاهرة فيها كلّ التناقضات: صلابة الاستخبارات وطيبة الأخيار، ووديّة الأصدقاء وإنسانيّة البشر. كان الجميع في قوى الأمن الداخلي يتركون له المهمّات الصعبة المرتبطة بالعلاقات مع الدول والأجهزة، والتواصل مع بيت الوسط، ومع كلّ الأفرقاء الداخليّين من حزب الله وصولاً الى أصغر صحافي في مؤسسة إعلامية ربّما لا يسمع بها أحد.
كان وسام الحسن ضمانة لنا وللجميع. تحت الضغط يصبح الهادئ. وفي الدفاع عن الحقّ يستحضر شراسة الشرّير. ومع الإعلام تخاله زميلاً أو ربّما صديقاً.
عندما تلقّيت خبر اغتياله كنت في فندق “الحبتور” بانتظار انطلاق احتفال للملحقيّة الثقافيّة للسفارة السعودية لمناسبة تكريم الطلبة السعوديين في الجامعات اللبنانية. كنت واقفاً إلى جانب السفير السعودي في حينه الصديق الكبير علي العسيري. أعلمته بالخبر، فسيطر عليه الصمت المطبق وهو ينظر إلى وجهي. وللمرّة الأولى رأيت دمعة تسقط من عينيه، ثمّ قال: “خسارة كبيرة لنا. خسارة كبيرة للبنان”. ثمّ طلب إلغاء الحفل على الرغم من حضور كلّ المدعوّين.
إقرأ أيضاً: وسام الحسن: شهادةٌ تأبى الغياب وإنجازات تقوى على التنازلات
وسام الحسن في ذكراه التاسعة يغيب ونحن بعد كلّ تلك السنوات يعزّ علينا ذاك الرحيل. صباح أمس في ذكراه، عندما استيقظت استذكرت كلمات الشاعر الكبير شوقي بزيع في قصيدته جبل الباروك حيث يقول:
“أظنّها طلقات الغدر حين هوت
تكاد لو أبصرت عينيك تعتذر
أرض الخسارة يا لبنان هل رَجُلٌ
يعيد للناس بعد اليوم ما خسروا”.