17 تشرين: صناعة الاستبداد في “مزرعة الحيوان”

مدة القراءة 7 د

يفكّك الروائيّ البريطاني جورج أورويل (George Orwell)، واسمه الحقيقي إيريك بلير (Eric Blair)، بنية الاستبداد وآليّاته ومظاهره في رواياته. وأكثرها انتشاراً رواية “1984”، التي تصوِّر الحياة الداخلية لنظام ديكتاتوري يحبس أنفاس الناس، ويُحصي عليهم حركاتهم وسَكَناتهم، وما يجول في خواطرهم. وطارت شهرة الرواية في النصف الثاني من ثمانينيّات القرن الماضي، لأنّ عنوانها قارب زمن ظهور ميخائيل غورباتشوف أميناً عامّاً للحزب الشيوعي السوفياتي، عام 1985، وما أطلقه من شياطين الحريّة، باسم “البيريسترويكا” (إعادة البناء)، التي تحوّلت إلى كارثة من منظور الشيوعيين في العالم. لكنّ روايته الأخرى “مزرعة الحيوانات” تبدو أعمق في مقاربة مسألة الاستبداد، من حيث البيئة الحاضنة له، وكيفيّة استنباته واستنهاضه واستنساخه تحت عنوان مكافحته والثورة عليه، وتلك هي المفارقة، مستعملاً اللغة المجازية، أو أسلوب “كليلة ودمنة” لابن المقفّع الناقل لقصصها المشوّقة من اللغة السنسكريتية.

بعد مرور سنين وانقضاء أجيال، يصبح النظام الثوري نسخة طبق الأصل عن النظام السابق، حتى إنّه يتخلّى تماماً عن كلّ الشعارات، بعد تجويفها بتعديلات وتبريرات، بل تصبح معاكسة تماماً

الفرق بين رواية أورويل وقصص ابن المقفّع، أنّ حيوانات “كليلة ودمنة” تنصح الملك المستبدّ بأسلوب موارب ولطيف، وبقصص متنوّعة مشوّقة، فيما جعل أورويل من “مزرعة الحيوانات” مختبراً متكاملاً للتحوّلات المتدرّجة التي تطرأ على نظام ثوري انقلابي، منتقلاً من الشعارات المثالية والوعود الخلّابة، إلى مشابهة النظام المستبدّ السابق، خطوة فخطوة. ومع كلّ تغيير طفيف أو نوعيّ في ممارسات الطبقة الحاكمة الثورية الجديدة، تتبدّل الشعارات وبرامج العمل. تحتلّ السلطة طبقة طفيليّة لا تبذل أيّ جهد، وتتمتّع بكلّ الامتيازات والخيرات، كما كان الحال في النظام القديم، إذ تُشغّل العمّال في ورش السخرة التي لا تتوقّف، مقابل حصص غذائيّة، متناقصة مع الوقت تحت ذرائع كاذبة. وبعد مرور سنين وانقضاء أجيال، يصبح النظام الثوري نسخة طبق الأصل عن النظام السابق، حتى إنّه يتخلّى تماماً عن كلّ الشعارات، بعد تجويفها بتعديلات وتبريرات، بل تصبح معاكسة تماماً. الخنازير هي طبقة الأذكياء الحاكمة، المحتكرة للتفكير والإدارة والثروة، وعقد التحالفات والصفقات. الكلاب المسعورة هي الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة التي تحمي الطبقة الأولى من غضب الشعب. الغنم هي الفئة المتخصّصة ببثّ البروباغاندا التي تروِّج للطبقة الحاكمة بترداد شعاراتها من دون أيّ تدبّر لمعانيها الحقيقية. الأحصنة هي القوّة العاملة الغبيّة والمغفّلة، التي تعمل وتكدّ طوال الأيام وأكثر ممّا هو مطلوب منها، اقتناعاً منها بعدالة القضيّة، وهي سعادة المجتمع ورفاهيّته. لا تدري ما يدور فوقها. وينتهي أمرها عند نفاد قوّتها في المسلخ، من دون دراية منها ولا من بقيّة الحيوانات.

أورويل، في هذه الرواية، يكثّف في لغة أدبيّة مجازيّة تقلّب النُّظم السياسيّة في البلدان الخاضعة للاستعمار. يثور الشعب على الاحتلال الأجنبيّ، وفق رؤية حالمة يبثّها أحد الحكماء. يتلقّف الرؤية مناضلون ثوّار، فيطردون الاحتلال، وينشرون وعوداً وبشارات بين الناس، المذهولين بالتحرير. يصمد الثوار أمام محاولات الاستعمار لاسترداد ما خسره. ينقلب الرفاق بعضهم على بعض. يتحوّل البطل إلى خائن فارّاً بجلده إلى المنفى. يتحكّم بالسلطة الجديدة، ثوّار منافقون. وهؤلاء يُعيدون إنتاج الاستبداد، وفق آليّات النظام الاستعماري السابق. وينتهي الأمر بمصالحة الاستعمار نفسه، والتواؤم معه، والتطابق مع مصالحه ورغباته. وهو ما رسمه أورويل بطريقة بديعة. فالخنازير التي جعلت كلّ مَن يمشي على قدمين (الإنسان) عدوّاً لها، تصبح في نهاية المطاف تمشي هي نفسها على قدمين كالإنسان، ويتبدّل الشعار السابق إلى النقيض، فيتطابق الشعار مع الواقع بدل أن يلحق الواقع بالشعار!

العبرة في رواية أورويل ليست في قدرة الحكّام على استغباء الشعوب بالشعارات، بل في القابليّة المطلقة لدى الجمهور لأن يكونوا أغبياء إلى هذه الدرجة المفزعة. وهذه هي الرسالة الحقيقية للروائي البريطاني. فالاستبداد ليس نتاج ذكاء قلّة، بل غباء كثرة. ومن هنا يبدأ التغيير. أي حين يَعِي الناس.

 

17 تشرين ومزرعة لبنان

في 17 تشرين الأول 2019، حدثت في لبنان ثورة وعي صادم ومهول، تساقطت معها الشعارات وبَليت. شَحَب بريق الزعماء وتهشّمت هيبتهم. أُصيبوا بالفزع لأيّام وأسابيع. والناس في الساحات في حبور ونشوة، يغنّون ويرقصون رقصة النصر على الأنفس أوّلاً، وكأنّها طقوس التطهّر من ذنب الخضوع لزعماء وأحزاب وأيديولوجيّات على مدى عقود من الزمان. لكنّه كان نصراً مؤقّتاً للعامّة على الخاصّة، الشعب على القادة، مع رفض مبدأ القيادة حتّى من بين الثوّار. كانت ثورة ذاتيّة من دون نهايات. بل كانت ترفض هذه النهايات. ثورة مفتوحة من دون أفق سياسي. حتى إنّها ترفض السياسة. يبدو ذلك بهيّاً في سطحيّة المواقف العدميّة من كلّ ما يمتّ بصلة إلى القديم من دون القدرة على اجتراح أيّ بديل. شعارات الثورة أعمق من مواقفها. كانت الفجوة عميقة بين المثال والواقع. تسلّل بعض الأحزاب عبرها، سواء أكانت في السلطة سابقاً أم كانت معارضة دائماً، محاولين الإفادة من زخم الشارع، وملء الفراغات الشاسعة بمشاريع وبرامج. تحوّلت الثورة أو ما بقي منها، إلى مطيّة للتسابق إلى الفوز بمقاعد نيابيّة، أو أداة ظرفيّة لتصفية حسابات شخصيّة. ثورة بلا قيادات، تحوّلت إلى انفعال دون عقل. وهذا ما أفسح المجال لكلّ ذي غَرَض أن يوغر في تشتيت الصفوف وبعثرة المجموعات لتنفيذ غايات معلومة ومجهولة.

إقرأ أيضاً: في ذكراها الثانية: حركة 17 تشرين بلا بركة

مَن الأذكى: “الخنزير” أم الإنسان؟ ومَن الأغبى: “الأحصنة” أم العمّال؟ في رواية أورويل، الجواب واضح. النظام الثوريّ أكثر خبثاً وذكاء. والجمهور أكثر غباءً وأقلّ وعياً. المعضلة في لبنان أكثر تعقيداً. الجمهور أكثر وعياً، حتى إنّه لم يعد يصدّق أحداً، ويفضّل ترك “مزرعة الحيوان” إلى مزارع أخرى. الثورة لا تستطيع الفوز، وفئة الأذكياء فيها هم أقلّ ذكاءً من الزعماء في النظام القديم، بمراحل عدّة. والأسوأ من ذلك، أنّ “أذكياء” الثورة ليسوا طبقة متضامنة أو منسجمة فتشكّل عصبيّة قويّة منافسة لعصبيّة المنظومة السياسيّة، بأيّ وجه من الوجوه. بل ينقلب بعضهم على البعض الآخر حتى قبل الوصول إلى أيّ مقعد نيابيّ، ناهيك عن تسلّم السلطة غنيمةً باردة، بأيّ وسيلة ناعمة. يتّهم بعضهم بعضاً بخيانة الثورة، والتواطؤ مع النظام والعمل لدى المنظومة. يتشكّك بعضهم في ثوريّة البعض الآخر، بالنظر إلى عدد التظاهرات التي شارك فيها، وحجم الأحجار التي ألقاها على البرلمان، ومدى الإصابات والكدمات التي تلقّاها من رجال الأمن أو من مؤيّدي النظام والزعماء، بل يحكّمون الزمان لإضفاء الشرعيّة على أنفسهم وسلبها من منافسيهم، فمنهم مَن شارك في اليوم الأوّل، بل منذ أعلن وزير الاتصالات الأسبق فرض رسم الواتساب. يردّ آخرون ممّن لم يتسنَّ لهم الوصول مبكراً إلى ساحة الشهداء بأنّهم ثوّار من قبل هذا الزمان، منذ أزمة النفايات عام 2015، وشعار “طلعت ريحتكم”، أي قبل سنوات من شعار “كلّكن يعني كلّكن” لعام 2019. ويستمرّ هذا التناطح في الأسبقيّة إلى ما قبل قبل. وبدل أن تصبح الانتخابات النيابيّة فرصة للتغيير، وهم الذين لم يستطيعوا فرضها في وقت أبكر، تحوّلت إلى كابوس مزعج لكلّ المكوّنات وكلّ المجموعات. وبدلاً من لوائح موحّدة ستظهر لوائح يتناسل بعضها من البعض الآخر. وكلّ ما يمكن أن تظفر به، في أحسن الأحوال، مقاعد إضافية قليلة إلى مقاعد النواب المستقيلين أو بعضهم. ونتساءل: أَنَفْرحُ بعودة القديم مع استبداده وفساده أم نحزن لاستبداد جديد في مزرعة الحيوان؟

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…