عندما سُئِل الممثّل التركي أنجين ألتان دوزياتان، الشهير بدور “أرطغرل”، أواخر عام 2018، عن سبب النجاح الأسطوري لمسلسل “قيامة أرطغرل” في العالم العربي، كان جوابه بسيطاً ومعبّراً: “لأنّ الجمهور العربي يبحث عن بطل مسلم”.
هذا الجواب الصادر عن ممثّل محترف، لا عن زعيم سياسي أو دبلوماسي محنّك أو مؤرّخ مرجعيّ، يختصر حال غالبية العرب السُنّة، وبالأخص في لبنان، حيث يعيش السُنّة حالاً من القهر السياسي المستمرّ والمتعاظم منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتوالي الانكسارات والخيبات، ولا سيّما بعد “غزوة 7 أيار” 2008، التي لم ينسَها ولن ينساها السُنّة في لبنان أبداً.
في رحلة البحث عن بطل، يصطدم السُنّة دائماً بتهمة الإرهاب، فهناك أحزاب وقوى سياسية وأجهزة أمنيّة واستخباريّة ووسائل إعلام شهيرة تعمل منذ سنوات لإسباغ هذه التهمة على أهل السُنّة وتحويلها إلى هويّة لهم، منذ عام 2005 حتى يومنا هذا.
زعامة الحريري
على الرغم من الشعبيّة الكبيرة التي حظي بها الرئيس سعد الحريري، وحوّلته الى رمز سُنّيّ انتشرت صوره في جميع مناطق الوجود السُنّي في لبنان، من وادي خالد في عكار إلى شبعا في الجنوب، مروراً بالبقاع، ووصولاً إلى بيروت، إلا أنّ الشعور بالقهر والانكسار بدأ يظهر عند السُنّة عقب اتفاق الإذعان في الدوحة عام 2008، الذي أعطى “الثلث المعطّل” لحزب الله للمرّة الأولى، واستمرّ بالتطوّر والتعاظم حتى أضحى شعوراً باليُتم السياسي، إثر توالي الهزائم وتراكم الخيبات، وانفضاض الدعم العربي، وخاصة السعودي، نتيجة الأداء الحريري. بل يمكن القول إنّ رحلة التيه السنّي بدأت بعد التدرّج السعودي بالابتعاد عن السياسة اللبنانية بعد تراكم “خطايا” سعد الحريري في لبنان وفي المملكة أيضاً.
لم يكن سهلاً ولا طبيعياً بعد أربعة عقود من الرعاية السعودية اللصيقة للاستقرار اللبناني من جهة ولاتفاق الطائف من جهة أخرى. والأهم الحرص على حماية وجودهم الدستوري في مركز القرار بالدولة في مواجهة النفوذ الايراني عبر حزب الله. لم يكن سهلاً على السُنّة التأقلم مع غياب الزعامة التاريخية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري أولا، وثانياً الانهيار الكبير السياسي والاقتصادي الذي رافق تجربة نجله سعد، أما ثالثاً فهو غياب الظهر الاقليمي السعودي الذي اعتادوه لأربعين سنة خلت.
صحيح انهم أخطأوا بحقه مرة، ولكن الذين يعرفون العدّ، فقد أخطأ بحقهم عشرة مليارات مرة…
طوال تلك السنوات كانت تهمة الإرهاب السنّيّ، التي اصطنعها النظام السوري وتاجر بها طويلاً، لصيقة بالحريري وأسرته وتياره، سواءً الاتهامات بالرعاية أو التمويل، من فتح الإسلام إلى ميليشيا المستقبل، فالفصائل المعارضة في سوريا، ثمّ معارك طرابلس، وصولاً إلى تشبيه “المستقبل” بأنّه “داعش بكرافات”، بدفع وتوجيه من حزب الله والتيار الوطني الحرّ وحلفائهما وإعلامهما.
الهُيام التركيّ
حالة القهر السنّيّ والفراغ الزعاماتي، تزامنت مع صعود نجم الرئيس رجب طيب إردوغان وحزب العدالة والتنمية في تركيا والمنطقة، حيث شعر السنّة في لبنان أنّهم وجدوا في الزعيم التركي الكاريزماتي والمفوّه البطل المنشود.
ومع سريان عشق تركيا بين السنّة، بدأ عددٌ كبيرٌ منهم بالتنقيب في جذور عائلاتهم عن أثر أو رابط عثماني تركي، أملاً في الحصول على الجنسيّة التركية، بحثاً عن الفخر والاعتزاز، وهرباً من الذلّ والانكسار.
وعلى الرغم من أنّ ذلك لا يعدو كونه عاطفة سنّيّة تروم البحث عن بطل طال انتظاره، حتى لو كان في آخر المعمورة، إلا أنّ تلك العاطفة تجاه تركيا تبيّن سريعاً أنّ الأجهزة التركية سارعت إلى استثمارها ونسجت شبكة علاقات تحت ستار الجمعيات والشخصيات ذات الأصل التركي، إضافة إلى “الجماعة الإسلامية” وبعض مجموعات الثورة التي باتت تستظلّ العلم التركي.
وشكّلت تلك العاطفة أيضاً فرصة ذهبيّة لجمعيّات وقوى تنسّق مع الدولة التركية وأجهزتها وجمعيّاتها الحكومية للتغلغل شمالاً، وبناء شبكة علاقات كبيرة تحت الراية التركية، سبق أن كشف عنها “أساس” بتاريخ 12 تموز الماضي.
وقد حفلت السنوات القليلة الماضية بالروايات المزعومة عن سيناريوهات تركيّة للتدخّل في شمال لبنان وبسط سيطرتها عليه، وبلغت حدّ اتّهام الدولة التركيّة بالوقوف خلف أعمال العنف التي شهدتها مدينة طرابلس أكثر من مرّة، والادّعاء أنّ لديها مخطّطات لفصل طرابلس وضواحيها مع عكار عن الكيان اللبناني، وتحويلها إلى محميّة تركيّة.
على الرغم من الشعبيّة الكبيرة التي حظي بها الرئيس سعد الحريري، وحوّلته الى رمز سُنّيّ انتشرت صوره في جميع مناطق الوجود السُنّي في لبنان، إلا أنّ الشعور بالقهر والانكسار بدأ يظهر عند السُنّة عقب اتفاق الإذعان في الدوحة عام 2008
تلك الروايات، التي أتت ضمن سياق الإصرار على إلباس السُنّة قميص الإرهاب، استندت إلى التضخيم الهائل لتحرّكات جماعات تركيا في لبنان، التي كان قسم من روّادها المستجدّين سعيداً بها وممتنّاً منها، لأنّها منحتهم هالة شعبية وإعلامية كانوا يحلمون بها ويسعون إليها.
يقول عضو بلدية طرابلس، ومؤسّس الجمعية اللبنانية التركية، زاهر سلطان، في حديث لـ”أساس”، إنّ النهضة التركية التي قادها الرئيس رجب طيب إردوغان، والتي حوّلت تركيا إلى قوّة إقليمية وعالمية بعدما كانت تُعدّ من الدول المتخلّفة، والمواقف السياسية العالية السقف تجاه الدول الكبرى، وإعادة الاعتبار للثقافة الإسلامية كهويّة جامعة وموحّدة، كلّ ذلك جعل إردوغان يتحوّل إلى زعيم مُلهَم لدى الجمهور السنّيّ في لبنان وغيره من البلدان.
ويضيف سلطان أنّ البعض في لبنان حاول اللعب على وتر الخلاف السياسي بين بعض الدول العربيّة وتركيا، لتلبيس أنقرة طربوش الإرهاب، خاصة بعد انتفاضة 17 تشرين، وهو ما ثبت عدم صحّته، وذلك بهدف حرف الأنظار عن تقصير الدولة ومسؤوليّتها عمّا يجري في طرابلس وكلّ لبنان.
الشحنة الطالبانيّة
ومؤخّراً دفعت حالة الإحباط والغيظ المكظوم لدى السُنّة شطراً منهم إلى إبداء نوع من التفاعل العاطفي الإيجابي مع سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، والانسحاب المذلّ للقوات الأميركية. فعلى الرغم من كونها حركة محليّة حصراً، وليس لها أيّ وجود خارج الرقعة الأفغانية، ولا تبغي تصدير الثورة مثلما فعل نظام الملالي الشيعة في إيران، إلا أنّ تزامن انتصارها مع أسوأ فترة يعيشها أهل السُنّة في لبنان منذ قرن تقريباً، دفع بالبعض إلى اعتبارها “بطلاً في زمن الخيبات السُنّيّة”، ولا سيّما أنّ حال لبنان تحت حِراب حزب الله لم يعد يختلف كثيراً عن أفغانستان.
بيد أنّ انتصار حركة طالبان جعل التنظيمات الجهادية، على اختلافها وتعدّدها، حديث الساعة ومحور اهتمام غربيّ وعربيّ كبير، خاصة أنّ الجمهور العربي والإسلامي تفاعل بشكل إيجابي مع انتصار طالبان، وأعطى شحنة معنويّة للجماعات الجهادية، إذ ظهر تنظيم داعش على الساحة الأفغانية، وانبعث تنظيم القاعدة من جديد.
شملت هذه الشحنة المعنوية أيضاً الأجهزة الأمنيّة اللبنانية، التي يُخشى أن تجد في الخوف الدولي المتعاظم من تلك الجماعات، والتعاطف السنّيّ المعنوي مع طالبان، على محدوديّته، فرصةً لإعادة إطلاق يدها في اعتقال أهل السُنّة تحت ذريعة محاربة الإرهاب من جديد.
تعيدنا هذه المشهديّة بالذاكرة إلى حقبة سطع خلالها نجم القاعدة وطالبان في أواخر التسعينيّات ومطلع الألفية الثانية، حينما راجت المتاجرة بسلعة الإرهاب السنّيّ، وقام نظام الأسد، التاجر الماهر في البيع والشراء، باختلاق مزاعم عن وجود خلايا للقاعدة، من أجل دخول البازار العالمي، مقايضاً الدول الكبرى محاربة الإرهاب بإطلاق يده في حكم لبنان.
وقتذاك، قامت الأجهزة الأمنيّة السورية واللبنانية بحملات اعتقال عشوائية، وفبركة ملفّات تحت عناوين جذّابة دولياً، وبطشت بالشباب السنّيّ لتقديمه قرباناً على مذبح تلك الصفقات، ووصل البطش إلى حدّ تحوّل الشكل واللباس معياراً للاعتقال لسنوات طويلة بتهمة الإرهاب.
يُعاد بَعْثُ هذا الفكر اليوم من جديد، مع الاعتقالات التي تقوم بها الأجهزة الأمنيّة اللبنانية لأفراد من السُنّة، وإلصاق تهمة الإرهاب بالمعتقلين، و”البروباغندا” الدعائية المصاحبة لها، مثلما هو الحال مع رواية اعتقال خليّة “داعشيّة الهوى” في طرابلس الأسبوع الماضي.
الهوى الداعشيّ
السياسيّ الطرابلسيّ الدكتور خلدون الشريف، وهو الوحيد من سياسيّي المدينة الذي استهجن رواية الخليّة الداعشيّة الهوى، في حديث لـ”أساس”، يتحدّث عن “محاولة لإلباس السُنّة لباس الإرهاب مرّة جديدة، عبر تركيبة كاريكاتورية لا تُقنِع طفلاً، ربطت بين جرائم حدثت لدوافع شخصيّة لا رابط مشتركاً بينها. فمَن ألقى القنبلة على عربة الحلويات في منطقة التل، كان صهر صاحبها، وفعل فعلته لأسباب عائلية، فأين الفكر الداعشيّ؟”.
يؤكّد الشريف أنّ السُنّة بالتحديد هم أوّل أهداف داعش، مستشهداً بدراسة غربيّة صدرت أخيراً، وأحصت قيام داعش خلال عام 2014 وحده بقتل 9000 شخص، 8990 منهم مسلمون، و10 فقط غير مسلمين.
ويعتبر الشريف أنّ “أربع حواضر سنّيّة لعبت دوراً أساسياً في تاريخ المنطقة اُستُهدفت استهدافاً واضحاً، وتمّ ابتداع بعبع إرهابي في كلٍّ منها لتدميرها، وهي طرابلس والموصل وحمص وحلب. بدأ الأمر في طرابلس مع فتح الإسلام عام 2007، ثمّ تمّ تدمير الموصل عبر داعش، ثمّ حمص وحلب عبر الحركات الجهادية المتطرّفة والنظام السوري”.
يمكن القول إنّ رحلة التيه السنّي بدأت بعد التدرّج السعودي بالابتعاد عن السياسة اللبنانية بعد تراكم “خطايا” سعد الحريري في لبنان وفي المملكة أيضاً
ويشير الشريف إلى أنّه “مع أفول نجم داعش، تحوّلت الاتّهامات الموجّهة إلى السُنّة، من الانتماء إلى داعش، إلى تهمة داعشيّ الهوى أو حامل الفكر الداعشيّ”، لافتاً في هذا الصدد إلى أنّ “مَن يحمل فكراً متطرّفاً يجب عدم محاكمته، فالمرء يُحاكَم على الأفعال الجرميّة لا على ما يحمل من أفكار، ففي مختلف أنحاء العالم يوجد الكثير من الأفكار الظلاميّة والهدّامة، لكن لا يُسجَن أيّ إنسان بسببها”.
“هنا تكمن مسؤولية النواب والقوى السياسية الذين لم يُسْهِموا في حلّ قضايا الموقوفين الإسلاميين، وحماية الأطفال والمراهقين الذين لديهم نوع من الهوى المتطرّف، المعجون بمحدوديّة المستوى التعليمي، والذين سُجِنوا وأصبحوا إرهابيين فعلاً بسبب الظروف السيّئة في السجون اللبنانية”، يجزم الشريف، ويضيف أنّ التطرّف في طرابلس “نسبته أدنى من 1% من عدد سكان المدينة، الذين ينبذون الفكر المتطرّف، خاصة أنّ جميع الأحداث التي شهدتها المدينة كان أهلوها هم المستهدفين فيها بالدرجة الأولى. يأتي الكلام عن تطرّف إسلاميّ في سياق محاولة تخويف المجتمع من جهة، ولحرف أنظار الناس عن المشاكل المعيشية التي يعيشها اللبنانيون، وعن فشل الدولة في معالجتها”.
عودة الفكر الأسديّ
ثمّة عقول خبيثة تعلّمت وتربّت تحت كنف أجهزة النظام السوري، وتمرّست في البيع والشراء وإجراء مقايضات مع المجتمع الدولي، وأرست فكراً لا يزال سائداً حتى اليوم، ألا وهو أنّ “الإرهاب هو صنو السُنّة”. فإلصاق الإرهاب بالسُنّة فكرة، والفكرة لا تموت، خاصةً إذا كان بعض صُنّاعها قد أصبحوا نواباً ووزراء ومشاريع زعماء، ولديهم نفوذ مؤثّر في الإعلام بحيث يستطيعون توجيهه كما يشاؤون.
لذلك لا تختلف روايات تفكيك الخلايا ذات الهوى الداعشيّ عن اتّهام أحد عمّال ورشة التلحيم في العنبر المشؤوم في مرفأ بيروت بالإرهاب، فقط لأنّه يستمع إلى أغاني فضل شاكر، إذ أصبحت الأغاني العاطفية دليلاً على الإرهاب.
كلّ ذلك هو استمرار لنهج خَبِرَهُ السُنّة جيّداً، خاصةً بُعيْد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، عندما حاولت الأجهزة الأمنيّة، سواء السورية منها أو اللبنانية، لا فرق، تلبيس عملية الاغتيال لـ”أبو عدس” مزعوم، ونشر الرواية المضحكة عن وجود آثار المادّة المستخدمة في التفجير على لباس حجّاج سُنّة من منطقة المنية شمال لبنان.
كان قتلة الحريري يريدون إلصاق التهمة بالسُنّة، وبالأخصّ سُنّة طرابلس وجوارها، لذلك قالوا إنّ السيّارة المستخدمة في التفجير، والبطاقات الهاتفية التي اُستُخْدِمت لمتابعة تحرّكات الحريري، اُشتُرِيت من طرابلس.
هو مسار طويل وشائك من الاستثمار المحلّي الخبيث “للإسلاموفوبيا” أو “رُهاب الإسلام”، الذي عمّ العالم بعد هجمات 11 أيلول 2001، ولا يزال، بهدف خلق أسطورة “الإرهاب الإسلامي”، التي تسعى دوماً إلى اعتبار السُنّة إرهابيين محتملين. لكنّ رفيق الحريري نجح في تجنيب سُنّة لبنان إلى حدٍّ كبير التصاق هذه الهويّة بهم.
إقرأ أيضاً: بالوقائع والأسماء: هكذا تحضّر تركيا لـ”احتلال” طرابلس
ومع اغتياله فَقَد السُنّة في لبنان الزعيم الحقيقي، ومن بعده السعودية، السند العربي المتين، وباتوا يبحثون عن زعيم فيما وراء البحار والمحيطات، وأضحوا عرضة للاتّهام بالإرهاب بجميع أنواعه، السلفي والصوفي، والعربي والتركي والأفغاني، والداعشي والقاعدي.
ولا يزال السُنّة ينحدرون من قاع إلى قعر، ومن إرهاب إلى آخر، ويبحثون عن زعيم يُعيدهم، كما كانوا قبلاً، أساس الدولة وأمانها.