مرّت أمس ذكرى الـ13 من تشرين الأوّل 1990، تاريخ إخراج ميشال عون من قصر بعبدا، على يد الجيش السوري، بطريقة مذلّة له وللبنان. لجأ ميشال عون إلى السفارة الفرنسيّة التي كان لديها، وقتذاك، مقرّ مؤقّت في بعبدا. بين 1990 و2021، لا تزال مسيرة إذلال لبنان واللبنانيين مستمرّة. أكثر من ذلك. هناك شيء اسمه “التيار الوطني الحر” يصرّ على إقامة عيد للذلّ يوم 13 تشرين الأوّل من كلّ سنة، وذلك لتأكيد أمور عدّة. من بين ما يسعى “التيّار” إلى تأكيده وتكريسه، في كلّ سنة، من خلال تمسّكه بشعار الذلّ والإذلال، قدرته على بيع المسيحيّين الأوهام واستنفار الغرائز وجعلهم في حال طلاق دائمة مع الحدّ الأدنى من المنطق والواقعيّة… ومع مصلحتهم كطائفة تعيش في كنف الدولة اللبنانية.
لا يثير “حزب الله” مشكلة الكهرباء ولا يثير رئيس الجمهوريّة، في المقابل، كارثة مرفأ بيروت من حيث يجب أن تُثار، أي من زاوية كيفيّة إيصال نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت وجِهة استخدامها
لعلّ أسوأ ما يحدث في لبنان حاليّاً هو انتفاء الأمل بإنقاذ البلد. استطاع “العهد القويّ” القضاء على أيّ بصيص أمل بعدما عاد ميشال عون إلى قصر بعبدا، مع صهره جبران باسيل، في 31 تشرين الأوّل 2016، تمهيداً لاستكمال ما لم يتحقّق في عام 1990. يستكمل ميشال عون، منذ عودته إلى لبنان في عام 2005، على دمّ رفيق الحريري، مسيرة إذلال لبنان واللبنانيّين، أي مسيرته الهادفة إلى القضاء على لبنان وتهجير مسيحيّيه ومسلميه، خصوصاً من ذوي الكفاءات. لم يتغيّر شيء في عقل الرجل الذي وعد صهره اللبنانيين، قبل سنوات طويلة، بالكهرباء 24 ساعة على 24، لتحلّ مكانها العتمة 24 على 24. يختزل هذا الواقع، الذي تؤكّده لغة الأرقام، على صعيد الكهرباء، مسيرة عهد لا تزال أمامه سنة وأسبوعان. سمّى العهد نفسه “العهد القويّ”، في حين أنّه “عهد حزب الله” ولا شيء آخر غير ذلك… أي عهد السلاح غير الشرعيّ الذي يحمي الفساد ويسيطر على مرافق الدولة اللبنانية، ومن بينها مرفأ بيروت.
لم يعد يوجد، عربيّاً ودوليّاً، مَن يسعى إلى إخراج البلد من الحفرة التي وقع فيها. تتّسع الحفرة يوماً بعد يوم، خصوصاً في ضوء فضيحة تفجير مرفأ بيروت ومسارعة رئيس الجمهورية إلى قطع الطريق مباشرةً على أيّ تحقيق دولي خشية معرفة بعضٍ من الحقيقة كما حدث في جريمة تفجير رفيق الحريري ورفاقه في عام 2005.
من بين آخر فضائح “العهد القويّ” التهديدات المباشرة، التي صدرت عن حسن نصرالله الأمين العامّ لـ”حزب الله”، والموجّهة إلى القاضي طارق البيطار في قضيّة تفجير مرفأ بيروت. ليست هذه التهديدات سوى جانب من مسيرة عهدٍ أخذ على عاتقه التعمية على الحقيقة. العهد راضٍ كلّ الرضا، عندما يدخل القاضي البيطار في زواريب التحقيق عبر استدعاءات لنوّاب أو وزراء سابقين وملاحقتهم بدل الذهاب إلى لبّ القضيّة. لبّ القضيّة هو: مَن أتى بنيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت؟ ومَن خزّنها في العنبر الرقم 12؟ ومَن حماها طوال سنوات؟ ومَن كان يُخرج كمّيات من النيترات من المرفأ؟ وإلى أين كانت تذهب هذه الكمّيات؟ الأهمّ من ذلك كلّه، ليس هناك مَن يريد أن يعرف ظروف الانفجار، خصوصاً أنّ نيترات الأمونيوم لا يصبح مادّة قابلة للانفجار إلّا في حال التقاء بينه وبين موادّ متفجّرة أخرى. هذا يجرّ إلى سؤال: هل كانت قرب العنبر الـ12 موادّ متفجّرة من نوع آخر؟ ومَن استهدف هذه الموادّ؟
نحن أمام “عهد قويّ” يريد معرفة كلّ شيء باستثناء الحقيقة. لا يريد معرفة حقيقة مشكلة الكهرباء التي تسبّب بها جبران باسيل أو حقيقة تفجير مرفأ بيروت. لا يثير “حزب الله” مشكلة الكهرباء ولا يثير رئيس الجمهوريّة، في المقابل، كارثة مرفأ بيروت من حيث يجب أن تُثار، أي من زاوية كيفيّة إيصال نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت وجِهة استخدامها…
في الطريق إلى وصول لبنان إلى حال الإفلاس التي وصل إليها، يتبيّن أنّ ما يجمع بين “حزب الله” وأجندته الإيرانيّة وأجندة ميشال عون وجبران باسيل، التي يختصرها الوصول بأيّ ثمن إلى قصر بعبدا، خيطٌ لا يمكن وصفه سوى بالحبل الغليظ. إنّه حبل تحويل الهزيمة إلى انتصار على لبنان. يلتقي ميشال عون في كلّ ما فعله وارتكبه منذ ما يزيد على ثلاثة عقود مع ما يريده “حزب الله”، أي تحويل لبنان إلى بلد تابع. كان قائد الجيش في عام 1988 مستعدّاً لأن يكون “جنديّاً في جيش حافظ الأسد”، لو قبل به الأخير رئيساً للجمهوريّة. بعد توقيعه وثيقة مار مخايل مع حسن نصرالله، في شباط 2006، قَبِل أن يكون غطاءً لسلاح “حزب الله”، الذي اختبره عشر سنوات كاملة قبل أن يوصله إلى قصر بعبدا.
يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير في البحث عن عمق الروابط بين عقليْن مذهبيَّيْن يُفترَض ألّا تكون بين أحدهما والآخر علاقةٌ من أيّ نوع باستثناء الرغبة في القضاء على لبنان وتحويله إلى أرض طاردة لأهلها. يمكن الذهاب إلى التقاء ميشال عون وجبران باسيل من جهة، وحسن نصرالله من جهة أخرى، عند وصف حرب صيف 2006 بـ”النصر”. تعرّض لبنان، وقتذاك، لهزيمة ساحقة ماحقة على يد إسرائيل. لم يكن ما تحقّق سوى انتصار إيراني على لبنان. كرَّت بعد ذلك سبحة انتصارات كثيرة على لبنان تُوِّجت بإيصال ميشال عون إلى موقع رئيس الجمهوريّة.
مطلوب مزيد من الانتصارات على لبنان. تلك هي النقطة التي يلتقي عندها “العونيّون” و”حزب الله”. أكثر ما هو مطلوب هذه الأيّام التعمية على حقيقة تفجير مرفأ بيروت، وأخذ اللبنانيين إلى زواريب يتطرّق طارق البيطار من خلالها إلى كلّ شيء ما عدا الموضوع الأساسي، موضوع “حزب الله” وهيمنته على مرافق الدولة ومعابرها. يكفي التلميح إلى مسؤوليّة الحزب كي يخرج حسن نصرالله بتهديداته مؤكِّداً أنّه السلطة العليا في لبنان.
إقرأ أيضاً: روكز فخامة المغوار (2/2): أخفق العهد بسبب محيطه
مطلوب تلهّي اللبنانيين بانتخابات لن يكون لها معنى ما دامت تجري استناداً إلى قانون فُصِّل على مقاس “حزب الله”. مطلوب كلّ شيء باستثناء معرفة الحقيقة في عهد الذلّ والإذلال للّبنانيّين ولبنان. عهدٌ يذهب رئيسه إلى دمشق ولا يسأل بشّار الأسد عن مصير عسكريّين شرفاء فُقِدوا في 13 تشرين الأوّل 1990 دفاعاً عن وجود ميشال عون في قصر بعبدا!