في عام 1966 أُسِّست جمعية الهلال الأحمر الكويتي، وفي عام 1983 أُسِّس مستشفى الهلال الأحمر الكويتي في باكستان. أُقيم المستشفى في مدينة بيشاور على الحدود مع أفغانستان، ليكون أكبر مستشفى للّاجئين الأفغان، الذين هربوا من الحرب في بلادهم إلى باكستان المجاورة.
في ذلك المستشفى أُسِّس مسجد للعرب الأفغان باسم “مسجد سبع الليل”، وكان خطيب المسجد عبد الله عزام، وكان طبيب الجراحة الأشهر في المستشفى أيمن الظواهري. وفي هذا المكان بدأ كثير ممّا جرى في العالم في العقود التالية. لم تكن للكويت أيّة صلة بالمستشفى أو المسجد، حيث ترك الهلال الأحمر الكويتي إدارة تلك المؤسسة لإحدى الجمعيّات الدينية.
سيذكر التاريخ أنّ طبيباً مصريّاً ومهندساً سعوديّاً قد فشلا في تحقيق الذات، فسالت دماء الملايين من الأبرياء، ولا تزال
دفعة 1974 في كلّيّة الطبّ بجامعة القاهرة.. طبيبان متطرّفان
حين تمّ إعلان نتائج شهادة الثانوية العامة في مصر عام 1968، كان اسم الطالب “سيّد إمام الشريف” من بين المتفوّقين. التحق “إمام” بكليّة الطب في جامعة القاهرة، ثمّ تخرّج عام 1974. وفي عام 1978، حصل الطبيب “سيّد إمام” على درجة الماجستير في الجراحة العامّة.
في عام 1968، التحق الطالب أيمن الظواهري أيضاً بكلّيّة الطبّ في جامعة القاهرة، وتخرّج عام 1974. وفي عام 1978، حصل الطبيب “أيمن الظواهري” على درجة الماجستير في الجراحة العامّة.
لم يكن “سيّد إمام” و”أيمن الظواهري” الزميلان في طبّ القاهرة، لعشر سنوات، من البكالوريوس إلى الماجستير، زميليْ دراسة فحسب، بل كانا زميليْن في التطرّف والتشدُّد أيضاً. شارك “سيّد إمام” في تأسيس تنظيم الجهاد، ولمّا جرى اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981، هرب “سيّد إمام” إلى خارج البلاد، حتى وصل إلى مدينة بيشاور في باكستان عام 1983. وفي عام 1989، ألّف كتابه الشهير في عالم التطرّف “العمدة في إعداد العُدّة”، الذي صدر في بيشاور، وصار دستوراً لكثير من الجهاديّين.
في عام 1993، أعاد أيمن الظواهري تأسيس “تنظيم الجهاد” المصري، الذي قام بالعديد من العمليّات الإرهابية في مصر، منها محاولة اغتيال رئيس الوزراء عاطف صدقي عام 1993. وفي كتابه “فرسان تحت راية النبي”، تفاخر الظواهري بالعمليّة الإرهابية التي راحت ضحيّتها الطفلة المصرية “شيماء”، التي مثّل رحيلها صدمةً كبرى للمجتمع المصري. وفي عام 1997، كان الظواهري وراء حادث معبد حتشبسوت المأساوي في مدينة الأقصر.
في عام 1998، أسّس أيمن الظواهري مع أسامة بن لادن تنظيم القاعدة. وفي عام 1999، أصدرت المحاكم المصرية حكماً غيابيّاً على الظواهري بالإعدام. أمّا زميل الجراحة في طبّ القاهرة “سيّد إمام الشريف” فقد واصل الطريق، مرجعاً شرعيّاً لتنظيم القاعدة، وزميلاً في قسم الجراحة بمستشفى الهلال الأحمر الكويتي في بيشاور، ومؤلّفاً لكتابٍ يحمل عنواناً صادِماً: “الإرهاب من الإسلام.. ومَن أنكر ذلك فقد كفر”!
الملك أحمد فؤاد خليفةً للمسلمين
في الفترة ما بين الحربيْن العالميّتيْن الأولى والثانية، طرح البعض في القاهرة تأسيس “خلافة مصرية” ومبايعة الملك أحمد فؤاد خليفةً للمسلمين. لأجل ذلك الأمر انعقد عام 1935 مؤتمر الخلافة الذي ضمَّ عدداً من الشخصيّات. ويذكر “تركي الدخيل” في كتابه “كنت في أفغانستان” أنّ جدّ أيمن الظواهري الشيخ “محمد الأحمدي الظواهري” كان من بين مشايخ الأزهر الذين بايعوا الملك.
إذاً فقد نشأ أيمن الظواهري في عائلة كانت ترى وجوب إعلان الخلافة قبل عقود. وعلى الرغم من أنّ المكوِّن المدني في أقارب الظواهري طاغٍ جدّاً، حيث القرابة مع عائلة رفاعة الطهطاوي رمز التنوير التاريخي في مصر، وعائلة عبد الرحمن عزام باشا أوّل أمين عام لجامعة الدول العربية، انضمّ أيمن الظواهري لجماعة الإخوان، ثمّ منها إلى تنظيم الجهاد، ثمّ إلى تنظيم القاعدة.
مسجد سبع الليل في بيشاور
أسّس الفلسطيني عبد الله عزام مسجد “سبع الليل” في مستشفى الهلال الكويتي، ليكون مسجداً للأفغان العرب، حيث كانت الخطب المنبرية في مساجد بيشاور باللغة الأوردية، وفي مسجد “سبع الليل” باللغة العربية.
من المدهش تسمية مسجد بهذا الاسم. إنّه اسم دراميّ جدّاً، وربّما يناسب منشآت غير روحانية أكثر ممّا يناسب مسجداً للمسلمين. وليس معروفاً ظروف تسمية المسجد بهذا الاسم، وإن كان واضحاً أنّ الاسم له طبيعة مصرية لا تخلو من دعابة.
كان الشيخ عبد الله عزام صاحب مكانة لدى الأفغان والأفغان العرب على السواء، إذ أسّس عام 1982 “مكتب خدمات المجاهدين”، وهو جهة الوصول والمغادرة لكلّ المتطوّعين القادمين. وكان المكتب يستقبل تبرّعات هائلة من أماكن عديدة، وكان جزء كبير منها يأتي من الاستخبارات الأميركية.
عمل عبد الله عزام أستاذاً في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة، قبل أن يغادر إلى الجامعة الإسلامية في إسلام آباد. وكان هو مَن قاد أسامة بن لادن إلى طريقه الجديد. وحسب السيدة “علياء الغانم” والدة أسامة بن لادن، وهي سوريّة علويّة، فإنّ “أسامة قد تغيّر كثيراً بعد دخوله جامعة الملك عبد العزيز”، حيث أصبح شابّاً مختلفاً في بداية العشرينيّات من عمره، وكان “الإخواني” عبد الله عزام أحد الذين أثّروا فيه كثيراً، وقد أصبح له بمنزلة المرشد والأب الروحي”.
أصبح الشيخ عبد الله عزام خطيب مسجد سبع الليل، وكان “أيمن الظواهري” و”سيد إمام الشريف” طبيبا الجراحة بالمستشفى من أبرز المصلّين. أمّا أسامة بن لادن صديق الظواهري، وتلميذ عزام، فقد كان يلقي كلمات في المسجد بين الفترة والأخرى. وهكذا ضمَّ مسجد سبع الليل: بن لادن، والظواهري، وعزام، وسيد إمام، وآخرين.
القاعدة تُكفِّر الشيخ عبد الله عزّام
ذات يوم ألقى أسامة بن لادن خطبة في مسجد “سبع الليل”، وهاجم الولايات المتحدة الأميركية، وقال: “يجب مقاطعة المنتجات الأميركية من أجل دعم القضية الفلسطينية”. يذكر “لورانس رايت”، مؤلّف كتاب “البروج المشيّدة”، أنّ “الظواهري طلب من بن لادن عدم مهاجمة أميركا، وقال له: مهاجمة أميركا خطر، ثمّ طلب منه تغيير حراسته ونظام أمنه، وهنا أحكم الظواهري قبضته على بن لادن”.
كان “عبد الله عزام” يمثّل أكبر عقبة أمام الظواهري في صلته ببن لادن، وكان الظواهري يريد إبعاد أيّ عنصر إخواني عن أسامة بن لادن، وحصر فكره ونشاطه في إطار رؤية الظواهري. وكان بين الظواهري وعزام خلاف آخر وأخطر. بحسب مؤلّف “البروج المشيّدة”، فإنّ عزام كان يريد التركيز على أفغانستان، فيما كان الظواهري يريد البدء بالجهاد ضدّ النظامين المصري والسعودي، وباقي النظم الحاكمة في العالم العربي والإسلامي.
كان الظواهري “جهادياً فوضوياً”، يتأسّى بنموذج الثائر الأرجنتيني تشي جيفارا في إشعال الألف ثورة، وكان يرى أنّ “الثورة مستمرّة” حتى تقوم خلافة عالمية، يحكمها تنظيم الجهاد ثمّ القاعدة.
توطّدت علاقة الظواهري بأسامة بن لادن في ذلك الوقت المبكر من عام 1986. راحَ الظواهري، من خلال “رجاله” من أطباء مستشفى الهلال الأحمر الكويتي، يعمل على إضعاف صورة عبد الله عزام و”رجاله” في مسجد سبع الليل.
سارت شائعات بأنّ عزام فاسد، وأنّه يسرق التبرّعات، وأخرى بأنّه عميل سعوديّ، وعميل أميركيّ، ثمّ وصل الأمر حدّ صدور فتوى بعدم جواز الصلاة خلفه. وجرت على أثر ذلك محاولات لاغتياله، كانت واحدة منها عبْر عبوة ناسفة أسفل المنبر. وفي عام 1989، أدّت عبوة ناسفة على الطريق إلى المسجد إلى تدمير سيارته ومقتله هو واثنين من أبنائه.
الظواهري رجل إيران
يرى باحثون أنّ أيمن الظواهري كان على صلة قويّة بإيران في سنوات “الجهاد الأفغاني” وما بعدها، وأنّ عبد الله عزام، الذي عمل أستاذاً في السعودية، كان يقف ضدّ تمدُّد النفوذ الإيراني لدى الأفغان العرب. وحسب كتاب “البروج المشيّدة”، فإنّ مقتل عبد الله عزام قد فتح الباب على مصراعيه لنفوذ إيران، وإنّ طهران سيطرت على أسامة بن لادن والقاعدة من خلال صلتها بأيمن الظواهري وتنظيم الجهاد المصري.
في عام 1994، ومع اشتداد الحرب بين فصائل المجاهدين الأفغان، غادر أسامة بن لادن إلى السودان. وفي عام 1996، اضطرّته الخرطوم إلى المغادرة، فقامت طالبان باستضافته. وفي عام 1998، كان التحالف بين الظواهري وبن لادن، فأسّسا تنظيم القاعدة، وبدأت عمليّات التنظيم التي انتهت بأحداث 11 أيلول الإرهابية عام 2001 بالولايات المتحدة.
نجحت رؤية أيمن الظواهري، الذي وجد في أسامة بن لادن راعياً ماليّاً لمشروعه، في “عولمة الجهاد”، وفي تجاوز أفغانستان إلى كلّ مكان تصل إليه يد التنظيم.
كان الملّا محمد عمر، زعيم حركة طالبان وحاكم أفغانستان، ضدّ “عولمة الجهاد”. انتصر جرّاح العيون، الذي نشأ في حيّ المعادي، وسط آمال عائلته بأن يكون طبيباً كبيراً أو وزيراً، في فرض مشروعه على أفغانستان والعالم. فأصبح العالم بعد مسجد سبع الليل غير ما قبله، وبعد مستشفى الهلال الأحمر الكويتي في باكستان غير ما قبله.
مدرسة أوكسفورد الصيفيّة
بينما ترصد السيّدة “علياء الغانم”، والدة أسامة بن لادن، نقطة التحوّل بلقاء أسامة الشيخ عبد الله عزام في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة في أوائل العشرينيّات من العمر، يرى “بيتر بيرجن”، مؤلّف كتاب “صعود أسامة بن لادن وسقوطه” الذي صدر عام 2021، أنّ نقطة التحوّل الأولى كانت في بريطانيا حين كان في السادسة عشرة من العمر.
حسب “بيرجن”، فإنّ أسامة بن لادن، الذي كان طفلاً من بين 55 أخاً وأختاً من خمس زوجات لأبيه، قد أُرسِل إلى المدرسة الصيفية في أوكسفورد في أثناء دراسته الإعدادية، مثل العديد من أبناء الأثرياء حول العالم.
ويقول الكاتب إنّ بن لادن كان مراهقاً منفتحاً، لكن فجأةً تغيّر رأيه، ورأى أنَّ المجتمع البريطاني هو مجتمع منحلّ، وغير أخلاقي. فعاد إلى السعوديّة، وتزوّج ابنة عمّه، واتّخذ طريقاً آخر، وكان ذلك بعد عودته من الدراسة الصيفية في بريطانيا.
يروي مؤلّف كتاب “صعود أسامة بن لادن وسقوطه”، واقعتيْن مهمّتيْن: الأولى هي وصيّة أسامة بن لادن لأبنائه، في أثناء فراره من جبال “تورا بورا” في أفغانستان، في أعقاب الغزو الأميركي عام 2001، بعدم انضمامهم إلى تنظيم القاعدة! والثانية هي كذب أسامة بن لادن وإعلامه بشأن قدراته العسكرية الحقيقية، ويدلِّل على ذلك بواحدة من المعارك ضدّ السوفييت في أفغانستان تُعرَف باسم “معركة بيجي”، التي صوّرها بن لادن وكأنّها نموذج معاصر من غزوة بدر، التي قادها نبيّ الإسلام محمّد (صلّى الله عليه وسلّم)، ذلك أنّ فئة قليلة هزمت فئة كبيرة بسبب قوّة الإيمان.
وحسب الكتاب، فإنّ ذلك لم يكن صحيحاً، فقد كان “الأفغان”، وليس “الأفغان العرب”، هم الذين انتصروا على السوفييت في هذه المعركة، وإنّ التضحيات والانتصارات فيها كانت لهم، ومع ذلك نسبها بن لادن لنفسه ولتنظيمه، وقال “إنّها أعظم معارك العصر الإسلامي الحديث”.
إقرأ أيضاً: حين تحالف الإخوان مع أميركا ضدّ طالبان
لقد كان لقاء أيمن الظواهري وأسامة بن لادن لقاء شخصيْن أرادا المجد، ثمّ حاولا تغطية ذلك بالمبادئ والبطولة. غادر الطبيب الطبّ، وغادر المهندس الهندسة، والتقيا عند القاع، وبدلاً من أن يحاولا الصعود إلى أعلى، أرادا جذب الأمّة بكاملها إلى الأسفل!
سيذكر التاريخ أنّ طبيباً مصريّاً ومهندساً سعوديّاً قد فشلا في تحقيق الذات، فسالت دماء الملايين من الأبرياء، ولا تزال.
*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً لرئيس الجمهورية المصرية السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعتيْ طنطا ومطروح، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.