حين تحالف الإخوان مع أميركا ضدّ طالبان

مدة القراءة 9 د

هي حرب المليون شهيد، بل هي حرب المليون ونصف المليون شهيد. هكذا يمكن وصف الحرب الأفغانية ضدّ الغزو السوفياتي، التي استمرّت عشر سنوات من عام 1979 حتى عام 1989.

إنّها أيضاً حرب المليون إصابة، والثمانية ملايين مشرّد، أو هي على وجه العموم “حرب العشرة ملايين خسارة”.

لم يكن خروج آخر جندي سوفياتي بمنزلة نهاية سفك آخر نقطة دم. فقد وقعت بعدها حرب المجاهدين ضدّ المجاهدين، وكانت الحرب الدينية في أفغانستان حقبة أخرى من المأساة.

في واحدٍ من فصول الحرب الدينية قام “الحزب الإسلامي”، بزعامة قلب الدين حكمتيار “الإخوانيّ غير المنضمّ إلى التنظيم الدولي”، بقصف كابول التي كان يحكمها الرئيس الإخوانيّ برهان الدين ربّاني، القياديّ البارز في التنظيم الدولي، وكان من جرّاء ذلك مقتل 50 ألفاً من الأفغان وتدمير كابول.

كان طموح الإخوان في عام 2011 يتمثّل في إعادة ربّاني إلى رئاسة أفغانستان. وفي حال قام الإخوان بالسيطرة على السلطة في مصر وليبيا وتونس واليمن والسودان، إضافةً إلى أفغانستان، فسيكون ذلك بمنزلة الوصول إلى الهدف قبل النهائي للسطوة والسلطة

الموت الثاني لجمال الدين الأفغانيّ

في عام 1897، رحَلَ جمال الدين الأفغاني، أحد أعلام التجديد في العالم الإسلاميّ. قادَ الإمام محمد عبده مسيرة التجديد في مصر والعالم، وكاد الطريق الذي صاغه الإمام أن يكون طريق الفكر الإسلامي في القرون التالية، لولا أن قام حسن البنّا بقطع الطريق وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين ليبدأ منحنى الهبوط في العالم الإسلامي.

بعد 60 عاماً من رحيل جمال الدين الأفغاني، راحَ أحدهم يؤسّس فرعاً لجماعة الإخوان في أفغانستان، لتتوالى بعد ذلك جماعات الإسلام السياسي. ففي عام 1957 قام غلام محمد نيازي، الذي درس في مصر، وقرأ كتب سيّد قطب، بالانضمام إلى الجماعة، وتأسيس قواعدها في أفغانستان.

حملت جماعة الإخوان في أفغانستان اسم “جماعة الشباب المسلم”، ومنها انطلقت لاحقاً معظم الحركات والتنظيمات. بعد عشرين عاماً من التأسيس، انقسمت الجماعة في عام 1977 إلى حزبيْن. الأوّل هو حزب “الجمعيّة الإسلامية” بقيادة برهان الدين ربّاني، والثاني هو “الحزب الإسلامي” بقيادة قلب الدين حكمتيار.

بعد عاميْن كان الغزو السوفياتي لأفغانستان. خشي الرئيس محمد ضياء الحق أن تكون باكستان هي الهدف الثاني للغزو السوفياتي بعد أفغانستان. وهنا بدأ التحالف الأميركي الباكستاني المدعوم عربيّاً لتمويل وتسليح “المجاهدين الأفغان”.

كانت هذه واحدة من أكبر وأخطر محطّات الحرب الباردة أو نصف الساخنة بين موسكو وواشنطن، وكانت أيضاً هذه هي اللحظة الحاسمة في تأسيس وتعزيز التحالف الإخواني – الأميركي.

كان من بين أسس التحالف بين الجانبين أن تدعم الولايات المتحدة سيطرة الإخوان على السلطة في أفغانستان، في حال هزيمة الاتحاد السوفيتي. وقد كان للإخوان ما أرادوا، حيث أصبح برهان الدين ربّاني رئيساً لأفغانستان من عام 1992 حتى عام 1996.

وهكذا سيطرت جماعة الإخوان على السلطة للمرّة الثانية في العالم الإسلامي. إذ كانت المرّة الأولى عام 1989 عبْر الانقلاب العسكري الذي قامت به الجماعة في السودان، وتولّى السلطة العقيد عمر البشير. وأصبح برهان الدين ربّاني ثاني رئيس إخواني بعد عمر البشير، أحدهما في آسيا والثاني في إفريقيا. وبدا للإخوان وكأنّ الجماعة قد أوشكت على التمكين، والقيادة التدريجيّة للأمّة، من كابول إلى الخرطوم!

هكذا توارى تراث الأستاذ جمال الدين الأفغاني، الذي غادر الحياة في نهاية القرن التاسع عشر، وغادر مشروعه في نهاية القرن العشرين.

طالبان تُسقِط حكم الإخوان

في عام 1996، دخلت حركة طالبان كابول، وهرب برهان الدين ربّاني وفلول الإخوان إلى مناطق الشمال.

في الشمال كان أحمد شاه مسعود قد أعلن قيادة المقاومة ضدّ طالبان، وانضمّ الإخوان إلى “تحالف الشمال”، وأصبح برهان الدين ربّاني قائد التحالف، واحتلّ القياديّ الإخواني “عبد ربّ الرسول سيّاف” موقعاً مهمّاً أيضاً.

راحت جماعة الإخوان تهاجم طالبان في كلّ مكان، وراحت أيضاً تروِّج لقائديْها في تحالف الشمال شاه مسعود وربّاني. وقد اشتهر في تلك الأثناء كتاب الأستاذ فهمي هويدي “طالبان.. جند الله في المعركة الغلط”، الذي صدر عام 2001، وفيه قام الأستاذ هويدي بتقديم رؤية نقدية شاملة للتطرّف الديني لطالبان، وفَهْم الحركة الخاطئ للإسلام.

كان ذهول الجماعة بفقدان رئاستها لأفغانستان، وفشل مشروع الأخونة الأفغاني، بلا حدود.. كانت الجماعة في باكستان وآسيا الوسطى ترى أنّ حكم أفغانستان هو السند الرئيسي للمشروع الإخواني في هذه المنطقة المهمّة من العالم الإسلامي، وأنّه في حال نجاح المشروع في الشرق الإسلامي، لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى ينجح في الغرب العربي.

 

عودة الإخوان على الدبّابات الأميركيّة

قبل أحداث 11 أيلول 2001 بيوميْن اثنيْن، قام تنظيم القاعدة باغتيال أحمد شاه مسعود، وكانت تلك “هديّة” من أسامة بن لادن إلى الملّا عمر، قبيل هجمات 11 أيلول، التي عارض تنفيذها.

كانت الهديّة فوق الخيال بالنسبة إلى طالبان، لكنّها لم تنعم بنتائجها كثيراً، إذْ سرعان ما كان القرار الأميركي بغزو أفغانستان. وهو ما كان مفاجئاً لطالبان والقاعدة.

قام الإخوان بالتحالف مع الولايات المتحدة ضدّ تحالف القاعدة وطالبان، ولمّا تولّى الرئيس حامد كرزاي حكم أفغانستان في ظلّ الاحتلال الأميركي، كان الإخوان جزءاً من النظام، والسند الأساسيّ لحكم كرزاي.

في عام 2002، أعاد الإخوان تأسيس فرع الجماعة باسم “الجمعيّة الأفغانية للإصلاح”. وفي لمح البصر، صار لفرع الإخوان مدارس ومعاهد، وقنوات فضائية وإذاعات وصحف ومواقع. وأصبح للجماعة أيضاً 35 فرعاً في أنحاء أفغانستان.

هكذا أعاد الاحتلال الأميركي جماعة الإخوان في أفغانستان إلى موقع القوّة من جديد، بعدما كادت تتلاشى على يد عدوّها الأكبر.. حركة طالبان.

شنَّت طالبان والقاعدة بالمقابل حرباً إعلاميّة على جماعة الإخوان، ولمّا اغتيل أحمد شاه مسعود عام 2001، ثمّ برهان الدين ربّاني عام 2011، كانت شماتة “الجهاديين” بلا حدود. وجاءت عناوين هذه التنظيمات حاسمة في تخوين الجماعة، وكان من بين ما قيل: “قُتِل عدوّ الله أحمد شاه مسعود”، “تمّ اغتيال الخائن برهان الدين ربّاني الذي دخل كابول على متن الدبّابات الأميركية”.

دافعت جماعة الإخوان عن قادتها، وكتب الأستاذ فهمي هويدي: “لقد أشاعوا أنّ أحمد شاه مسعود لمّا حارب طالبان، كان ضدّ الحركة الإسلامية. هذا ليس صحيحاً على الإطلاق، فالرجل كان لا ينام إلاّ متوضِّئاً”.

واصل “الجهاديون” الحرب على الإخوان، وكتب هاني السباعي، مدير ما يُسمّى مركز المقريزي في لندن: “إنّ برهان الدين ربّاني وعبد ربّ الرسول سيّاف عضوان في التنظيم الدولي للإخوان. وقد دخل الإخوان التحالف المدعوم بقوات الاحتلال الأميركي إبّان حكم طالبان عام 2001، ثمّ دخل الإخوان كابول فوق الدبّابات الأميركية، وأصبح ربّاني وسيّاف وقادة الجماعة في تحالف مع حامد كرزاي والأميركيّين”.

أميركا والإخوان ينتصرون على طالبان

سيطر الإخوان على مفاصل الدولة في عهد كرزاي، من رئاسة الأركان إلى الاستخبارات فالإعلام والقضاء. وقام الرئيس كرزاي بتعيين برهان الدين ربّاني في منصب رئيس “المجلس الأعلى للسلام”.

في عام 2011، قام برهان الدين ربّاني بزيارة مصر. وفي القاهرة زار مقرّ جماعة الإخوان، ونشرت الجماعة خبر زيارة عضو تنظيمها الدولي لمكتب الإرشاد.

كان طموح الإخوان في عام 2011 يتمثّل في إعادة ربّاني إلى رئاسة أفغانستان. وفي حال قام الإخوان بالسيطرة على السلطة في مصر وليبيا وتونس واليمن والسودان، إضافةً إلى أفغانستان، فسيكون ذلك بمنزلة الوصول إلى الهدف قبل النهائي للسطوة والسلطة.

كان ذلك الطموح الإخواني العالمي مدعوماً من واشنطن وأنقرة، ومموَّلاً من الدوحة. قامت طالبان باغتيال برهان الدين ربّاني، وتعثّر المشروع في أفغانستان، وقام الشعب المصري بثورة 30 حزيران، وانهار المشروع في مصر، وقام الرئيس قيس سعيّد بالإصلاح الدستوري، وتراجع المشروع في تونس، فيما كانت ثورة الشباب في السودان قد أطاحت بالرئيس عمر البشير الذي قاد بلاده ثلاثين عاماً نحو الهاوية.

لم يكن خروج آخر جندي سوفياتي بمنزلة نهاية سفك آخر نقطة دم. فقد وقعت بعدها حرب المجاهدين ضدّ المجاهدين، وكانت الحرب الدينية في أفغانستان حقبة أخرى من المأساة

طالبان تنتصر على الإخوان.. والجماعة تهنِّئ

في آب 2021، عادت طالبان إلى السلطة في أفغانستان بعد عشرين عاماً، إذ خرجت أميركا ودخلت طالبان، وانهار المشروع الإخواني بنهاية الوجود الأميركي.

هنا واحدة من أخطر حالات الخداع في العالم، إذ سرعان ما أعلنت الجماعة، التي حاربت طالبان، تأييدها لطالبان. يا إلهي.. الجماعة التي تحالفت مع الاحتلال تهنّئ البلاد بالتحرير!

قامت فروع الإخوان في فلسطين وسوريا، والإعلام الإخواني في تركيا وقطر بالترويج للانتصار “الطالباني – الإخواني” في أفغانستان!

قام أحمد الريسوني، رئيس الاتّحاد القطري لعلماء المسلمين المعروف باسم الاتحاد العالمي، بتهنئة طالبان. وكرّر الإخواني الليبي علي الصلابي قول الملّا عمر: “لقد وَعَدنا الله بالنصر، ووَعَد جورج بوش بالهزيمة.. وسنرى أيّ الوعديْن أصدق”.

إقرأ أيضاً: طالبان والحزب.. المطار والمحطّة!

كان الإخوان مع جورج بوش، وكانت طالبان تحارب الإخوان، وبدورهم حارب الإخوان طالبان. ثمّ انهزم الإخوان وانتصرت طالبان. لكنّ الإخوان، في تزييف مذهل للتاريخ شاهده الناس على الهواء، قامت بتهنئة الحركة التي لطالما ناصبتها العداء، وقاتلتها بالسلاح.

ألا تبّاً لكِ أيّتها السلطة.. كان الناس يحتاجون إلى عقود أو قرون لتزييف التاريخ. لكنّنا إزاء حالة فريدة، حيث يجري تكذيب الحواسّ، وتزييف المضارع، وصناعة الباطل!

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً لرئيس الجمهورية المصرية السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعتيْ طنطا ومطروح، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…