عبد اللهيان البيروتي: تحويل النفوذ السياسيّ إلى مصالح اقتصاديّة

مدة القراءة 5 د

من غير المألوف في العلاقات الدولية، حتى بين البلدان التي تربطها أواصر شديدة، أن تتوالى زيارات الوفود الرسمية من دولة لأخرى بوتيرة ممنهجة وبمواعيد متقاربة، ومن دون أسباب وجيهة تستدعي ذلك. هكذا كان حال لبنان مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية إبّان فترة الشغور الرئاسي الممتدة من منتصف 2014 إلى أواخر 2016.

في تلك المرحلة، صار الكثير من المسؤولين الإيرانيين ضيوفاً دائمين على بيروت، يأتونها على رأس وفود من رئاسة الجمهورية ومجلس الأمن القومي ومجلس الشورى ووزارة الخارجية وغيرها من المؤسسات الرسمية الإيرانية، بمعدّل وفد كلّ شهرين. كرّر بعض هؤلاء المسؤولين السياسيين الزيارة أربع مرّات أو خمساً، فيما لا يعرف أحدٌ عدد وتيرة الزيارات السريّة التي كان يقوم بها قادة أمنيّون، مثل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني.

ها هو لبنان يشرّع أبوابه لزائر قديم – جديد ممثَّلاً بوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي دخل بيروت دخول الفاتحين في زيارة نُظِّمت مواعيدها على عجل، وبدت كأنّها جولة تفقّديّة يقوم بها قائد لأحد مواقع نفوذه

جاء هذا الأداء وسط تفتّت داخلي لبناني غير مسبوق، وتعطيل مقصود لعمل المؤسسات، وعجز السلطة التشريعية عن انتخاب رئيس للجمهورية بسبب تمسّك حزب الله وحلفائه بترشيح ميشال عون، وبالتوازي كان غيابٌ عربيّ كامل عن الاهتمام بلبنان بعدما تحوّل إلى منبر للشتائم والافتراء على أشقّائه الذين اعتبروه حالة ميؤوساً منها. وهذان العاملان المفتعَلان، أي الاستعصاء الداخلي والغياب العربي، سمحا لإيران بملء الفراغ والظهور بمظهر القابض على القرار اللبناني.

بعد الاتفاق على الملفّ النووي الإيراني، صار ميشال عون رئيساً للجمهورية، واختفى الضيوف الإيرانيون خمس سنوات كاملة تاركين البلاد في عهدة منظومة مؤتمنة.

لكن ها هو لبنان يشرّع أبوابه لزائر قديم – جديد ممثَّلاً بوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي دخل بيروت دخول الفاتحين في زيارة نُظِّمت مواعيدها على عجل، وبدت كأنّها جولة تفقّديّة يقوم بها قائد لأحد مواقع نفوذه.

الرجل، الأكثر شبهاً بقاسم سليماني منه بسلفه الدبلوماسي المحنّك محمد جواد ظريف، يعرف لبنان جيّداً ويُلمّ إلماماً واسعاً بخريطته السياسية المعقّدة. وقد قرّر اقتحام المشهد اللبناني في هذه اللحظة بالذات، أي بعد تشكيل الحكومة الجديدة، ليقدّم نفسه إلى الجماعة السياسية اللبنانية بخطاب سياسي قديم متجدّد تضمّن رسائل عدّة:

– الأولى أنّ لبنان باقٍ في الحضن الإيراني على غرار باقي دول محور الممانعة، وأنّ طهران ستقف دائماً إلى جانبه لكسر “الحصار الظالم” المفروض عليه. طبعاً لم يشرح لنا الوزير الإيراني طبيعة هذا الحصار.

– الثانية أنّ المقاومة (ومعها الشعب والجيش الضلعان الأخريان للثلاثيّة الشهيرة) هي الطريق الوحيد لـ”الانتصارات” على غرار تلك التي صنعها عماد مغنية وقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في لبنان والعراق.

– الثالثة أنّ إيران جادّة في الحوار الجاري مع المملكة العربية السعودية بوساطة عراقية لتخفيف التشنّج في الإقليم. هذا الكلام يحتاج إلى تدقيق، أو على الأقلّ إلى بعض الوقت للتحقّق من صدقيّته، خصوصاً أنّ محاولات حوار وتقارب مماثلة بين الرياض وطهران جرت في الماضي وانتهت إلى الفشل.

– الرابعة وقد تكون الأهمّ، هي الرسالة الاقتصادية التي تمثّلت في الإعلان عن استعداد إيران لبناء معمليْن لتوليد الطاقة الكهربائية في لبنان في غضون ثمانية عشر شهراً، واهتمامها بإعادة إعمار مرفأ بيروت المدمّر.

الرجل، الأكثر شبهاً بقاسم سليماني منه بسلفه الدبلوماسي المحنّك محمد جواد ظريف، يعرف لبنان جيّداً ويُلمّ إلماماً واسعاً بخريطته السياسية المعقّدة

لقد سبق للجمهورية الإسلامية أن عرضت في عام 2015 إنشاء مصانع للأدوية الإيرانية في لبنان، الأمر الذي رفضته الحكومة لأسباب فنّيّة وأخرى تعود إلى تفادي التعرّض لعقوبات أميركية.

وكان أعلن الأمين العامّ لمجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني في ختام زيارته بيروت أنّ بلاده قرّرت تقديم هبة مكوّنة من أسلحة وتجهيزات عسكرية إلى الجيش اللبناني. بطبيعة الحال، رُفِض هذا العرض لأنّ الجميع كان يعلم، وأوّلهم إيران، أن لا قِبَل للبنان بتحمّل تبعات هذا الأمر في ظلّ الصراع المحتدم بين إيران والولايات المتحدة التي تشكّل المصدر الرئيسي لتسليح الجيش اللبناني.

هذه المرّة تخطو طهران خطوة مماثلة، بل أكثر جرأةً من سابقاتها، بعرضها المتعلّق بتوليد الكهرباء وإعمار المرفأ. لكنّ العامل المشجّع لها قد يكون تجربة استيراد النفط الإيراني إلى لبنان التي مرّت بهدوء على الرغم ممّا شابها من انتهاك للسيادة وللقوانين اللبنانية وكلّ الكلام العالي الذي قيل عن عقوبات أميركية لم تحدث.

اللافت للنظر في هذا العرض، سواء بقي في حيّز الكلام أم انتقل إلى خطوات عمليّة، هو أنّه وضع المصلحة الإيرانية في مواجهة مصلحة فرنسا المهتمّة أيضاً بمسألتيْ الكهرباء وإعمار المرفأ. هذا يعني أنّ التوافق الإيراني الفرنسي الذي أنتج حكومة نجيب ميقاتي يبقى في إطار التوافق السياسي ولا يتعدّاه إلى الجانب الاقتصادي.

إذن الرسالة الأبرز، التي وجّهها إلينا حسين أمير عبد اللهيان، أبعد من الكلام المكرور عن العلاقات الأخويّة وانتصارات المقاومة والممانعة. إنّها إعلان نيّة صريح أنّ الحضور السياسي لإيران في لبنان يجب أن يعطيها موقعاً وازناً في خطة الإصلاحات القطاعية التي يُفترض أن يكون لبنان مقبلاً عليها.

إقرأ ايضاً: عبد اللهيان في بيروت.. يناجي السعودية وأميركا

لحسن حظّنا أنّ الوزير الإيراني لم ينسَ القول إنّ عروضه مرهونة بموافقة أو بطلب الدولة اللبنانية، ورشح أنّه طلب من الحكومة اللبنانية الحصول على “إذن أميركي”، لاستثناء لبنان من العقوبات على إيران… وإلّا لكان ربط المصالح المرغوب إيرانياً قد تحوَّل إلى اغتصاب للإرادة اللبنانية في الشأن الاقتصادي كما هو واقع في شؤون سيادية أخرى. 

مواضيع ذات صلة

روسيا ولعبة البيضة والحجر

منذ سبع سنوات كتب الأستاذ نبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” مستشرفاً الأيّام المقبلة. لم يكتب عمّا مضى، بل عمّا سيأتي. نستعيد هذا النصّ للعبرة…

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…