قاضٍ فوق القضاء!

مدة القراءة 7 د

بعد قرار محكمة التمييز المَدنية عدم قبول طلب ردّ المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار المقدَّم من النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر “لكونه ليس من قضاة محكمة التمييز، وطلب ردّه لا يُقدَّم أمامها”، باتت كلّ الأسئلة مشروعةً عن الخلفيّة التي تتحكّم بأداء المحقّق العدلي، وشبكة “الحماية والرَدع” التي يحظى بها في الداخل والخارج، ومدى دخول الملفّ دائرة التسييس “عن سابق تصوّر وتصميم”.

والأهمّ هو تنصيب محاكم الاستئناف والتمييز رئيس محكمة جنايات بيروت السابق والمحقّق العدلي الحالي في قضية المرفأ قاضياً فوق القضاء نفسه.

فقد أعاد أمس قرار محكمة التمييز إلى الأذهان قرار محكمة التمييز الجزائية في 18 شباط الماضي، برئاسة القاضي جمال الحجّار، بكفّ يد المحقّق العدلي السابق في قضية المرفأ القاضي فادي صوّان بعد تقديم زعيتر وخليل طلب نقل الدعوى إلى قاضٍ آخر للارتياب المشروع.

كان لافتاً أمس قول رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إنّ “قرار محكمة التمييز المدنية يؤكّد مرّة جديدة أنّه لا يمكن كفّ يد المحقّق العدلي إلا بقرار من مجلس الوزراء

يومذاك أصدرت المحكمة قراراً قضى بقبول الدعوى شكلاً وفي الأساس، وأحالت ملفّ الدعوى على قاضٍ آخر.

وهكذا نكون في غضون ثمانية أشهر أمام قرارين متناقضين لمحكمة التمييز الأولى، إذ اعتبرت نفسها في القرار الأوّل صاحبة اختصاص وكفّت يد القاضي المعنيّ، وفي القرار الثاني لم تعتبر نفسها صاحبة اختصاص، مع أنّ القاضي صوّان ليس من قضاة محكمة التمييز أيضاً.

وما بين القرارين المتناقضين قرارٌ لمحكمة الاستئناف برفض طلبات ردّ القاضي البيطار المقدَّمة من النواب خليل وزعيتر ونهاد المشنوق لـ”عدم الاختصاص النوعيّ”.

واعتبرت الغرفة الخامسة في محكمة التمييز المدنية، أمس، برئاسة جانيت حنا وعضويّة جوزف عجاقة ونويل كرباج، أن “ليس للمحكمة أن تضع يدها على طلب الردّ المقدَّم من النائبين خليل وزعيتر، وأن تسير بإجراءاته، بدءاً بإبلاغ الطلب إلى القاضي والخصوم، ما لم يكن القاضي المطلوب ردّه من قضاة محكمة التمييز، وفقاً لِما جاء في المادّة الـ123 من قانون أصول المحاكمات المدنية”.

وأضاف القرار: “وحيث إنّ المحقّق العدلي المطلوب ردّه ليس من عداد قضاة محكمة التمييز، وإنّ الصلاحيّات الممنوحة له بموجب أحكام المادّة الـ363 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لا تجعله تابعاً للنيابة العامّة التمييزية، ولا قاضياً من قضاة المحكمة، فإنّ طلب ردّه لا يُقدَّم بالتالي أمام هذه المحكمة”.

وتقول مصادر قانونيّة بارزة في هذا السياق إنّ “تفسير القوانين بشكل متناقض بات يمنع المتضرّر من أداء المحقّق العدلي من المراجعة أمام القضاء. واقعٌ يمنح القاضي البيطار، الذي يريد تجريد المدَّعى عليهم من حصاناتهم خلافاً للدستور، حصانةً حديديّةً لا يتمتّع بها أيّ قاضٍ أو مسؤول آخر في الجمهورية اللبنانية، ويرفع أكثر منسوب التدخّل والتسييس في القضية”.

وتضيف المصادر: “عمليّاً، بتنا أمام محقّق عدلي حاكم بأمره وdouble face. لديه ازدواجيّة وظيفيّة ولا يُمسّ. ولا تجرؤ أيّ محكمة على ردّه وتصنيف وضعه القانونيّ بما يخدم الدعاوى المقدَّمة ضدّه وفق القانون”.

وبعد ردّ محكمة الاستئناف في الرابع من الجاري طلبات الردّ المقدَّمة من النواب خليل وزعيتر والمشنوق لـ”عدم الاختصاص النوعيّ”، وعدم اعتبار محكمة التمييز المدنية نفسها أيضاً صاحبة اختصاص بوضع يدها على الملفّ، يجدر السؤال عن الجهة الصالحة لكي يقدِّم أمامها الدعاوى المتضرّرون من أداء القاضي البيطار وادّعاءاته وتجاوزه الدستور وضربه مبدأ فصل السلطات.

فهل باتت كلّ الطرقات مقفلة أمام المسار القانوني لردّ القاضي البيطار بعدما كبرت دائرة التساؤلات والشبهات حول أدائه؟ وما هي الوسيلة القانونية لإفهام القاضي البيطار أنّه ليس صاحب الاختصاص أصلاً في الادّعاء على وزراء ونواب لديهم، وفق الدستور، محكمتهم الخاصة التي يمثلون أمامها تماماً كما المحكمة الخاصّة بالقضاة؟ وإلى أيّ مدى بات منطقياً الاستمرار في منح “براءة ذمّة” لقاضٍ تتوسّع دائرة “حمايته” من قوى خارجيّة، وصولاً إلى بعض قضاة قصر العدل، ومروراً بقوى داخليّة صاحبة أجندات خاصة؟ وما السبيل لوضعه عند حدّه وبالقانون؟

تقول مصادر قانونيّة بارزة إنّ “تفسير القوانين بشكل متناقض بات يمنع المتضرّر من أداء المحقّق العدلي من المراجعة أمام القضاء

وفيما كان لافتاً أمس قول رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إنّ “قرار محكمة التمييز المدنية يؤكّد مرّة جديدة أنّه لا يمكن كفّ يد المحقّق العدلي إلا بقرار من مجلس الوزراء”، فإنّ أوساطاً متابعة ترى أنّ الأخذ بقاعدة parallelisme des formes أو موازاة الصيغ، سيأخذ الملفّ بالكامل إلى السياسة على قاعدة أنّ من عيّنه ينزع عنه هذا التعيين.

لكن مَن يتولّى فعليّاً هذه المهمّة هو وزير العدل عبر مجلس القضاء الأعلى الذي يوافق على الاسم المقترح. ووفق المعلومات، لا توجُّه لوضع الملفّ على طاولة مجلس الوزراء.

ومع صدور قرار محكمة التمييز المَدنية تستمرّ تحقيقات القاضي البيطار، والمواعيد التي حدّدها للوزراء السابقين ورئيس الحكومة السابق حسان دياب تبقى ثابتة، بحيث يُفترَض، وفق أجندته، أن يستمع اليوم إلى النائب خليل، وغداً إلى المشنوق وزعيتر، وفي 28 الحالي إلى دياب.

وفيما بات مؤكّداً أنّ المدّعى عليهم لن يمثلوا أمام المحقّق العدلي لكونه ليس الجهة الصالحة في الملاحقة، فإنّ أوساطاً مطّلعة تشير إلى أنّ “البيطار، ومن ضمن سياسة الاستعجال وتسجيل النقاط، قد يحرق المراحل فلا يصدر مذكّرة إحضار بحقّهم، بل سيعمد إلى إصدار مذكّرات توقيف غيابية، وقد مهّد لذلك بإبلاغهم لصقاً وكأنّهم متوارون عن الأنظار، وهذا ما سيُدخل الملفّ دائرة التسييس الكامل والاستنسابية”. 

ويرتفع تدريجيّاً مستوى التسييس الذي يُزنّر تحقيقات انفجار المرفأ. فرئيس مجلس النواب، على لسان علي حسن خليل، أشار إلى مستوى “التسييس العالي جدّاً في الملفّ والاستنسابية التي تطغى على عمل المحقّق العدلي”، فيما اتّهم حزب الله صراحةً “الأميركي بالتعاطي مع التحقيق في انفجار المرفأ كإحدى الأدوات التي يمكن أن يبقيها مفتوحةً ليستثمرها ويوظّفها في الانتخابات النيابية ضدّ خصومه،  من أجل أن يغيّر المعادلة النيابية القائمة لمصلحة حلفائه ومَن يدعمهم”.

وأمس شنّ أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله هجوماً هو الأعنف ضد القاضي البيطار، متّهماً إياه بأنّه يشتغل سياسة وبالاستنسابية واستخدام دمّ الشهداء لغايات سياسية بما لا علاقة له بالعدالة وبالقانون، ووصفه بـ “الحاكم بأمره”. 

وقال نصرالله: “الوضع لم يعد يحتمل”، وسأل نصرالله القاضي  البيطار “الرئيس ميشال عون أبدى استعداده للادلاء بإفادته، فلماذا لم تستمع له، ولماذا لم تستمع أيضاً للرئيس السابق ميشال سليمان؟”. ولماذا لم تستمع لإفادات كل رؤساء الحكومات السابقين باستثناء الرئيس حسان دياب لأنك استضعفته”؟ ولماذا لم تستمع لكل الوزراءالسابقين؟ لماذا استثناء بعض القادة الامنيين؟. 

وأكد نصرالله أن البيطار “يكبّر الإهمال الوظيفي لكي يقصّ رؤوس ويقوم بتصفيات سياسية”، داعياً مجلس القضاء الأعلى لكي يقوم بدوره وإذا لم يحلّ الأمر على مجلس الوزراء أن يقوم بخطوة ما”.

إقرأ أيضاً: عبود وعويدات باقيان…!

وهي مواقف تتقاطع مع اتّهام صريح للبيطار بالتحرّك ضمن أجندة أوسع تستهدف “إحداث تغيير سياسي كبير أبعد حتى من استحقاق الانتخابات النيابية، ومرتبط أيضاً بحماية مرجعيّات قد يكون عليها مسؤولية مباشرة في انفجار المرفأ”، وذلك بالتزامن مع تسريبات عن لسان البيطار نفسه تكشف تبنّيه خيار تغيير الطبقة السياسية.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…