ما كادت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تبصر النور حتّى انبرى الحزب والعهد إلى تطويقها: الحزب بتهريب المازوت الإيراني والمواقف السياسيّة التصعيدية، فضلاً عن تهديد القضاء، والعهد بالاستمرار في ممارسة نزعاته التسلّطيّة في مجلس الوزراء عبر فرض مستشارين لرئيس الجمهورية في اللجنة المكلّفة مفاوضة صندوق النقد. ولم تُخفِ المخارج اللفظية لبيان تشكيل اللجنة، الذي أورد أنّ الاستعانة بالمستشارين تكون عند الحاجة، مسعى العهد إلى التضييق على رئاسة الحكومة وإخضاعها لموازين القوى الحالية.
كلّ ذلك يجري في وضح النهار وتحت أنظار الداخل والخارج، وإلّا لكان الجميع ظنّ أنّ الحكومة الجديدة هي حكومة معارِضة للعهد والحزب، وأنّها غير خاضعة لشروطهما، فيما يعلم الجميع أنّها ما كانت لتبصر النور لولا تحقيقها شروطهما. ومع ذلك لم يعطياها مهلة لالتقاط أنفاسها، فباشرا فور ولادتها التصعيد السياسي داخل مجلس الوزراء وخارجه.
ولا ريب أنّ عودة الحزب إلى النبرة التخوينيّة في هذه اللحظة السياسيّة ليست دليلاً على قوّته، بل علامة على ضعفه أو خوفه
قال “كبير السياسيّين” في حزب الله النائب محمد رعد إنّ “الذين يسعون إلى تغيير المسار السياسي في البلد عبر الانتخابات النيابية المقبلة إنّما يريدون تطويق المقاومة بغية فرض التطبيع مع إسرائيل”. فلماذا يعود الحزب إلى استخدام اللغة التخوينيّة في لحظة انتصاره السياسي بتشكيل حكومة معقودة الأرجحيّة السياسية له؟ هل هذه نشوة الانتصار، أم يشعر الحزب أنّ فوزه ناقص ومهدَّد بالنظر إلى تدهور الأوضاع الماليّة والاقتصادية إلى حدِّ أنّه ما عاد بإمكان أيّ حكومة معالجتها إلّا بالاستعانة بالدعم الدولي والعربي؟
فلا حديث العهد والحزب عن التوجّه شرقاً وجدَ ترجمات عمليّة له، ولا الكلام عن تحويل الاقتصاد من ريعيّ إلى منتج كان منطقياً ومعقولاً في لحظة الانهيار القصوى، ولا نصيحة السيّد حسن نصرالله والنائب جبران باسيل بزراعة “البلاكين” والحقول أبعدت شبح المجاعة عن اللبنانيّين في وقت بلغ التضخّم نسباً قياسيّة وفُقِدت الأدوية وتداعى قطاعا الاستشفاء والتعليم، وقد فاقم تفجير المرفأ الأوضاع سوءاً إلى حدود قياسية.
صندوق النقد!
إزاء هذا الواقع يكرّر الحزب القول إنّه ليس ضدّ التفاوض مع صندوق النقد، لكنّه لا يقبل أن يفرض الصندوق خطّة جاهزة على البلد، وكأنّ لبنان يمتلك نقاط قوّة في هذه المفاوضات، فيما الانهيار المالي الذي بلغه في ظلّ العهد القويّ حليف الحزب جرَّده من أيّ نقاط قوّة وقد أصبح دولةً فاشلةً ومجتمعاً منكوباً.
إذاً فشل العهد والحزب الحاكمان أحدهما عبر الآخر فشلاً ذريعاً في وضع حدّ لتفاقم الأزمة التى أوصلت ما يزيد على 75 في المئة من اللبنانيين إلى ما تحت خطّ الفقر، وجعلت 49 في المئة من عائلات اللاجئين السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وكلّ 9 من أصل 10 لاجئين سوريين يعيشون في فقر مدقع، بحسب أرقام الأمم المتحدة. وعلى الرغم من هذه الكارثة الإنسانية المتعاظمة، فإنّ النائب رعد لا يرى في سعي اللبنانيين إلى تغيير المسار السياسي الذي أوصل اللبنانيين إلى “جهنّم” سوى طريق إلى التطبيع مع إسرائيل!
ولا ريب أنّ عودة الحزب إلى النبرة التخوينيّة في هذه اللحظة السياسيّة ليست دليلاً على قوّته، بل علامة على ضعفه أو خوفه. فواقع الحال أنّ الحزب عزّز نفوذه السياسي داخل تركيبة الحكم وقد بسط نفوذه في رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان، إضافةً إلى أنّ الظرف السياسي على المستويين الإقليمي والدولي يمكن أن يشكّل فرصة للحزب للإمساك أكثر بالوضع اللبناني، إلا أنّ الحزب غير واثق من قدرته على إقناع اللبنانيين بجدوى نفوذه في لبنان، أو بعبارات أخرى، على إقناعهم بأنّ نفوذه فيه إيجابيّ وليس سلبياً، خصوصاً أنّ شرائح واسعة من اللبنانيين باتت تربط بين تفاقم الأزمة الاقتصادية وسياسات لبنان الخارجية التي يتحكّم بها الحزب منذ سنوات، هذا فضلاً عن تأثير تدخّلات الحزب في نزاعات المنطقة على علاقات لبنان العربية والدولية.
قال “كبير السياسيّين” في حزب الله النائب محمد رعد إنّ “الذين يسعون إلى تغيير المسار السياسي في البلد عبر الانتخابات النيابية المقبلة إنّما يريدون تطويق المقاومة بغية فرض التطبيع مع إسرائيل”
مشكلة الحزب لهذه الناحية أنّه في لحظة بلوغ انتصاره السياسي أوجَه بلغ الانهيار الاقتصادي والماليّ أوجَه أيضاً. هذا التزامن بين انتصار الحزب وانهيار البلد لا يربك الحزب وحسب، وإنّما يعزّز التفكير والتشكُّك في نوعيّة انتصار الحزب، ولا سيّما أنّ البلدان، التي تفاخر إيران بمدّ نفوذها فيها، هي كلّها بلدان ترزح تحت أعباء اقتصادية ومعيشية هائلة. وهذا يُضعف قدرة الحزب على إقناع اللبنانيين بفوائد سياساته، ومن بينهم العونيون الذين يحاولون رمي فشلهم في أوقات اشتداد الأزمة على الحزب، ثمّ لا يلبثون أن يرضوا عنه عند توفير مكاسب لهم في السلطة، كما حدث في الحكومة الحالية.
كلّ ذلك يجعل الحزب في موقف صعب إذا كان يطمح إلى أن يكون عنصراً إيجابياً في الحياة السياسية والوطنية، لكنّه حتّى اللحظة لم يستطع أن يعبر المسافة بين كونه أحد “جيوش إيران في المنطقة”، كما صرّح أحد المسؤولين الإيرانيين أخيراً، وبين كونه حزباً يمثّل شريحة من اللبنانيين ينتمون إلى طائفة بعينها.
وهذا يجب إعادة طرح السؤال التاريخي عن الهامش اللبناني في حركة حزب الله السياسيّة والاجتماعية في لحظة تحوّلات كبرى في المنطقة، وإعادة التقدير تدريجيّاً للاعتبارات الوطنية لدول المنطقة على حساب التدخّلات الدولية والإقليمية والمشاريع التوسّعيّة الكبرى. وهو ما يمكن تلمّسه بشكل رئيسي في حركة الحكومة العراقية، وكذلك في بروز مقاربات دولية وإقليمية جديدة للمسألة السورية مع عودة الرهانات على تغيير النظام السوري لسلوكه، وهي الجملة الشهيرة التي استخدمتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس بعد غزو العراق، وعادت للظهور في وثيقة أردنيّة عُرِضت أخيراً على مراكز قرار دولية.
هذا مسار جديد قد لا يشكّل عامل ضغط على الحزب إقليمياً فحسب، بل ولبنانياً أيضاً لناحية قدرته على التخلّي عن الممارسة السياسيّة الخشنة المتّكئة على ترسانة سلاحيّة ضخمة، والتحوّل إلى لاعب سياسي “طبيعي”. فالمطلوب أيضاً أن يغيّر الحزب سلوكه في حال أراد الانخراط في اللعبة السياسية كقوّة سياسية شعبية يمكن أن تقدّم بدائل مُقنِعة للسياسات الحكومية التي كرّست الفساد في الدولة والمجتمع.
لكن حتّى لو افترضنا أنّ الحزب مستعدٌّ لتغيير سلوكه فإنّ استعداده هذا يُواجِه استحالتيْن:
– أولاهما أنّ الحزب غير قادر على الانفكاك عن الاستراتيجية الإيرانية إلّا إذا غيّر النظام الإيراني سلوكه أيضاً.
– والثاني أنّه غير مستعدّ أيضاً لرفع الغطاء عن سياسات الفساد في ظلّ المقايضة التي يرعاها بين تغطيته أو غضّه الطرف عن فساد الطبقة السياسية مقابل سكوتها عن سلاحه. وهو ما ظهر في دفاعه المستميت عن المنظومة الحاكمة في وجه انتفاضة 17 تشرين، لا بل تحوّلت هذه الانتفاضة في لحظة بروزها إلى عدوّه الأوّل قبل أن يعمل على اختراقها وإجهاضها بشتّى الطرق. ثمّ أليست عمليات التهريب التي يقوم بها الحزب عبر الحدود اللبنانية – السورية، وقد اعتبرها الشيخ “الحزب اللهي” صادق النابلسي “جزءاً من عملية المقاومة”، فساداً بفسادٍ؟
إقرأ أيضاً: الحزب “يكتُمُ” أصوات المغتربين… مراعاة لـ”الميثاقيّة”
هذه كلّها مؤشّرات إلى خوف الحزب لا إلى قوّته، وهو ما يزيد من تعقيدات الوضع اللبناني وخطورته، ولا سيّما على أعتاب الانتخابات النيابية التي إن حصلت فستكون، في العمق، استفتاءً على سلاح الحزب، ولذلك نرى الحزب مستنفراً لضمان عدم خسارته الغالبية البرلمانية، وكلام النائب رعد أوّل الغيث!