دخلت على خطّ الانقسام حول عمل المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت مواقف أميركية وأوروبية لتزيد حدّته وتكرِّس الاصطفاف السياسي حول التحقيق. هل تفيد الإشادة الأميركية بالقاضي البيطار أم تفتح له جبهةً إضافيةً مع حزب الله بعد الكلام الصريح عن تهديد المحقّق العدلي في انفجار بيروت؟
ينقسم اللبنانيون بين مؤيّد لعمل قاضي التحقيق باعتباره عملاً جريئاً لا مواربة فيه ولا مظلّات سياسية، وبين معارض له باعتباره مسيَّساً أو مدفوعاً من جهة سياسية واضحة. وبين هاتين الفئتين فئةٌ تدعو إلى انتظار قراره الظنّيّ نهاية العام ليُبنى على الشيء مقتضاه، ولا سيّما مع تأكيدات خرجت من محيطه تقول إنّه يملك إجابات على كلّ التساؤلات المطروحة.
الواقع أنّ ملفّ التحقيق في تفجير مرفأ بيروت يفتح جبهة سياسية تفوق بسعتها الجبهات الداخلية
غير أنّ مساراً آخر فرض نفسه على القضيّة، أوّلاً من خلال الإعلان عن تهديد وصل إلى القاضي البيطار “بقبعه” من مكانه. وهو تهديد تلقّاه البيطار من مسؤول التنسيق والارتباط في حزب الله وفيق صفا، كما أفادت الإعلاميّة لارا الهاشم التي طلب منها صفا إبلاغ رسالة التهديد إلى القاضي البيطار.
عاصفة إعلامية وسياسية وقضائية رافقت الكلام عن تهديد صفا للقاضي البيطار، ولا سيّما أنّ حزب الله لم يصدر حتى الساعة أيّ توضيح أو نفي لهذا الكلام. امتدّت هذه العاصفة إلى ما خلف الحدود اللبنانية، فأصدرت الخارجية الأميركية والخارجية الفرنسية مواقف تدعو إلى ضرورة استكمال التحقيق وإعلان الحقيقة في انفجار المرفأ.
المواقف الدولية هذه جاءت على لسان الناطقة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، آنييس فون دير مول التي دعت السلطات اللبنانية لاستكمال التحقيق بكلّ شفافية، وبعيداً عن التدخلات السياسية، من أجل تلبية تطلعات المواطنين المشروعة وكشف الحقيقة. فيما حث متحدّث باسم الخارجية الأمريكية في معرض ردّه على أسئلة الصحفيين، السلطات اللبنانية على الإسراع في استكمال تحقيقٍ شاملٍ وشفافٍ في أسباب الانفجار، وعدم الرضوخ لتهديدات حزب الله اللبناني، بحسب وصفه.
مواقف الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا أثارت رد من رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله السيد هاشم صفي الدين الذي قال من بنت جبيل: “نحن حتى الآن لم نخض معركة اخراج الولايات المتحدة الاميركية من أجهزة الدولة، ولكن اذا جاء اليوم المناسب وخضنا هذه المعركة سيشاهد اللبنانيون شيئا آخر…”
المواقف الدولية لحقها موقف صدر عن لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي، ودعا عدد من النواب في مجلس الشيوخ الأميركي الحكومةَ اللبنانيّةَ إلى “الحفاظ على سلامة القضاة الذين يتولّون التحقيق في الانفجار المروِّع الذي هزّ مرفأ بيروت”.
أصدرت الخارجية الأميركية والخارجية الفرنسية مواقف تدعو إلى ضرورة استكمال التحقيق وإعلان الحقيقة في انفجار المرفأ
يأتي هذا الكلام وكأنّه موجّه بشكل مباشر إلى حزب الله، الذي ذكره البيان الصادر عن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، معرباً عن قلق من “دور حزب الله في الدفع بقرار تعليق هذا التحقيق الحسّاس”، ومشدّداً على نزاهة المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار، ومعتبراً أنّه قاضٍ محترم خدم بلاده لأكثر من عقد.
الطلب إلى الحكومة اللبنانية الحرص على سلامة القضاة والمحقّقين كي يُكملوا واجباتهم ويُنهوا التحقيق، قرأه المراقبون كلاماً موجّهاً ضدّ تدخّل حزب الله في التحقيق، الأمر الذي سرعان ما استدعى ردّاً من النائب حسن فضل الله دان فيه موقف نوّاب في مجلس الشيوخ الأميركي، واعتبره “اعتداءً سافراً على سيادة لبنان، وتدخّلاً مكشوفاً في هذه التحقيقات، لفرض إملاءات على القرارات القضائية”، مطالباً “بموقف رسمي واضح يدافع عن سيادة لبنان”.
وتحدّث حزب الله في موقفه هذا، الذي يأتي على لسان نائبه حسن فضل الله، عمّا اعتبره “تدخّلاً مباشراً في الملفّ لتوظيفه في تصفية حسابات في الداخل اللبناني بعد فشل الحروب والحصار لإخضاع لبنان”. وقد استدعى ردُّ فضل الله تساؤلاتٍ عمّن يقصد حزب الله بقوله إنّ “هذا التوظيف يتلاقى مع محاولات قوى محليّة استغلال حالة الاستنسابية وازدواجية المعايير التي تعتري التحقيقات، واستثمار دماء الشهداء وآلام المتضرّرين، لتحقيق مكاسب سياسية وتقديم أوراق اعتماد لجهات خارجية”. هل يقصد حليفه التيار الوطني الحر الذي يدعم عمل القاضي البيطار من خلال كلام واضح صدر عن رئاسة الجمهورية منذ أيام دعا فيه إلى استكمال التحقيق؟
هل يمكن للاشتباك المحلّي أوّلاً، والاشتباك الدولي مع حزب الله على خلفيّة ملفّ التحقيق ثانياً، أن يطيح بالمحقّق العدلي وبالتحقيق في تفجير مرفأ بيروت؟ لا سيما مع دعوة حزب الله إلى إعادة التحقيقات إلى “مسارها الوطني الصحيح دستوريّاً وقانونيّاً بعيداً عن أيّ إملاءات خارجية أو توظيف داخلي أو تسييس”.
إقرأ أيضاً: لماذا الخلط بين “التحقيق” و”المحققّ”؟
أدرك اللبنانيون منذ اللحظة الأولى أنّ التحقيق في تفجير مرفأ بيروت لن يكون نزهة، ومنهم مَن اعتبر التفجير محطة أساسية في تاريخ لبنان مثلها مثل اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي لا تزال الحقيقة القضائية عنه محدودة جداً. والواقع أنّ ملفّ التحقيق في تفجير مرفأ بيروت يفتح جبهة سياسية تفوق بسعتها الجبهات الداخلية. وبينما يفاوض الأميركيون والفرنسيون الإيرانيين، سيكون التحقيق في جريمة العصر، من دون شكّ، عرضةً لمهبّ الرياح الدولية والإقليمية.