بعد تشكيل الحكومة ضاقت الخيارات كثيراً أمام مُطلِقي الحجج لعدم تعديل المرسوم 6433 الذي يمنح لبنان حقوقاً إضافيةً في مياهه تبلغ 1430 كلم مربّعاً زيادةً على مساحة الـ860 كلم مربّعاً، أي الانتقال من الخط 23 إلى الخط 29 جنوباً.
وهذا التعديل هو الورقة الوحيدة تقريباً المتاحة أمام لبنان لتقوية موقفه في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية وإجبار العدوّ الإسرائيلي على الجلوس مجدّداً إلى طاولة التفاوض في الناقورة.
وبعدما “طبّ” وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل على القوى السياسية في نيسان الماضي بعد توقيع وزيريْ الأشغال والدفاع السابقين ميشال نجار وزينة عكر، ثمّ الرئيس حسان دياب، على مرسوم التعديل، ليُشرف عن قرب على فرملة مسار التواقيع، تفيد معلومات “أساس” أنّ “الوسيط الجديد أموس هوكشتاين، الذي عيّنته الإدارة الأميركية بديلاً عن جون ديروشيه، سيزور لبنان خلال الشهر الجاري للاستطلاع والتدخّل لصدّ محاولات تعديل المرسوم، وفرض مقاربة جديدة للملفّ”.
تقول مصادر معنيّة بملفّ التفاوض لـ”أساس”: “نحن في سباق ساعة بساعة مع الإسرائيلي. لا مهرب من التمديد الذي هو عمل وطنيّ واستراتيجيّ إلا إذا كنّا أمام مؤامرة”
وفي هذا الإطار، تؤكّد أوساط الوفد اللبناني المفاوض لـ”أساس” أنّ “الوسيط بين لبنان وإسرائيل الذي خدم في جيش العدوّ، ويحمل الجنسية الإسرائيلية، هو صاحب فكرة التفاوض على الحقول المشتركة تحت البحر بين لبنان وإسرائيل، وتقاسم الأرباح من خلال شركة تدير المنطقة المتنازع عليها. لكنّ الآبار المشتركة تخلق نزاعاً معقّداً، والاقتراح مرفوض من قبلنا. وإذا كان الوسيط هوكشتاين يريد تكريس فكرة الآبار المشتركة ضمن مساحة 860 كلم مربّعاً، وأن يتجاهل المساحة ما بين الخط 23 والخط 29، فهذا يعني أنّهم يريدون تضييع المزيد من الوقت. وسنتصدّى لذلك بكلّ الوسائل المتاحة”.
يُذكَر في هذا السياق أنّ النائب جبران باسيل كان قد أعلن في 24 نيسان الماضي (جبران ينقلب على الترسيم: آبار مشتركة مع اسرائيل في مقال نُشر في “أساس” في 26 نيسان). وجوب “إدخال عامل إضافي لرسم الحدود هو عامل تقاسم الثروات عبر طرف ثالث، أي شركة أو تحالف شركات عالمية ينفِّذ الإنتاج وتوزيع الحصص بين الطرفين المُتخاصمين، عبر اتفاقين منفصلين مع الشركة”، وهو ما يعني تبنّي خيار الآبار المشتركة المرفوض من قبل الجيش وفريق سياسي كبير.
مرسوم “الخطأ القاتل”
والمرسوم الصادر عام 2011 أيّام حكومة نجيب ميقاتي، الذي كرّس عطباً جوهرياً وقاتلاً في تقدير لبنان لحقوقه في مياهه، عاد ليفرض نفسه على “ميقاتي الثاني” الجالس في السراي في ظلّ واقعين:
الأوّل: الحديث المتزايد، ومصدره محيط ميقاتي، عن ضرورة الاستعانة بخدمات شركة عالمية لترسيم الحدود البحرية بالتزامن مع إحالة رئيس الوفد المفاوض العميد بسام ياسين إلى التقاعد في 7 الجاري.
وفي هذا السياق، تحضر الدعوة الصريحة لباسيل قبل أشهر إلى “تشكيل لبنان سريعاً وفد تفاوض (جديداً) برئاسة ممثّل عن رئيس الجمهورية، وعضويّة ممثّلين عن رئيس الحكومة والخارجية والأشغال والطاقة والجيش، لاستكمال التفاوض مع إسرائيل، ومراجعة التفاوض مع قبرص، وبدء التفاوض مع سوريا”. وكان دعا أيضاً إلى “إهمال الخطّين 1 (الخط الإسرائيلي) و23 (الخط اللبناني)، والاتفاق على خطّ جديد بين خط Hoff والخطّ 29 (خطّ الجيش)، مقترحاً أن “يعيد ترسيم خطّ هوف خبراء دوليّون، والاتفاق مع شركة أميركية متخصّصة”.
دراسة “استراتيجيّة” للجيش
الثاني: الدراسة الاستراتيجية الشاملة التي قدّمها الوفد اللبناني المفاوض لترسيم الحدود إلى رئيس الجمهورية. ويؤكّد مطّلعون أنّ “هذه الدراسة أهمّ من دراسة UHKO، وهي دراسة استراتيجيّة، وليست فقط تقنيّة، وتمّت خلال إعدادها الاستعانة بخبراء في التفاوض وحقوقيين وقانونيين. وتعرض الدراسة مسار التفاوض، ونقاط القوّة والضعف عند الجانب اللبناني والعدوّ الإسرائيلي، وتقدِّم إجابات على الشقّ التقنيّ والقانونيّ للخطّ 29، وتشرح بإسهاب أهميّة تعديل المرسوم لإنجاح المفاوضات بأسرع وقت، والمسار الذي يمكن أن يؤدّي إلى الضغط على إسرائيل من أجل الحفاظ على مصلحة لبنان العليا. والأهمّ أن الدراسة لا تحكي عن نظريات، بل تحاكي الواقع بشكل شامل وقابل للتطبيق، وتشرح خطة المرحلة المقبلة تمهيداً لبدء الاستثمار في الثروة النفطية لمصلحة لبنان”.
وفي المعلومات أنّ الرئيس عون أرسل الدراسة إلى رئاسة الحكومة، واعداً ببذل الجهد لبتّ هذه المسألة العالقة، مع العلم أنّ عون تمنّع عن توقيع مرسوم التعديل ضمن صيغة الموافقات الاستثنائية إبّان حكومة تصريف الأعمال، طالباً عقد جلسة لمجلس الوزراء للموافقة على التعديل.
تؤكّد أوساط الوفد اللبناني المفاوض لـ”أساس” أنّ “الوسيط بين لبنان وإسرائيل الذي خدم في جيش العدوّ، ويحمل الجنسية الإسرائيلية، هو صاحب فكرة التفاوض على الحقول المشتركة تحت البحر بين لبنان وإسرائيل، وتقاسم الأرباح من خلال شركة تدير المنطقة المتنازع عليها
… وميقاتي يغيِّر هويّة الوفد؟
وصلت الدراسة فعلاً إلى الأمانة العامّة لرئاسة مجلس الوزراء، ووضعها الأمين العامّ القاضي محمود مكيّة على طاولة ميقاتي الذي تشير أوساطه إلى أنّها “أُرسِلت إليه للاطّلاع عليها، وقد فعل ذلك، وانتهى الأمر”.
المفارقة أنّ الأوساط نفسها عادت لتذكّر بإشكالية تشكيل رئاسة الجمهورية الوفد المفاوض أواخر عام 2020 من دون الأخذ بالمادة الـ52 من الدستور التي توجب على رئيس الجمهورية “التوافق مع رئيس الحكومة على تأليف وفود التفاوض الخارجي”.
وسيستغلّ ميقاتي، وفق المعلومات، هذه الثغرة بالتزامن مع طرح مسألة التمديد للعميد بسام ياسين الذي يُحال إلى التقاعد الخميس المقبل.
يؤكّد القريبون من ميقاتي رفضه لهذا التمديد، وأنّ إحالة العميد ياسين إلى التقاعد سيفتح الباب أمام إعادة النظر بهويّة الوفد المفاوض.
وهي معضلة قد تجدِّد النزاع، الذي انتهى على “زغل” أيام حكومة دياب، في ظلّ تمسّك عون وباسيل بإعطاء طابع مدني لا عسكري للوفد.
عون متردّد أم رافض؟
في واقع الأمر، يعود القرار الأساس في هذه المسألة إلى رئيس الجمهورية الذي لم يقُل كلمته بعد. وهو واقع بحدّ ذاته يثير الاستغراب في المؤسسة العسكرية في ظلّ موقف واضح من قائد الجيش العماد جوزف عون بأن “لا بديل للعميد ياسين حالياً، ربطاً بالدور وتراكم الخبرات، ولأنّ مقتضيات التمديد هي وطنيّة قبل أيّ معطى آخر”. وتفيد معلومات أنّ قائد الجيش هدّد بالانسحاب من مفاوضات الترسيم في حال استبدال الوفد العسكري التقني بآخر “سياسي”. ومع إعطاء الضوء الأخضر من بعبدا، يوقّع وزير الدفاع قرار التمديد بناءً على اقتراح قائد الجيش.
وتقول مصادر معنيّة بملفّ التفاوض لـ”أساس”: “نحن في سباق ساعة بساعة مع الإسرائيلي. لا مهرب من التمديد الذي هو عمل وطنيّ واستراتيجيّ إلا إذا كنّا أمام مؤامرة”.
إقرأ أيضاً: حكومة ميقاتي تحاسب حكومة دياب
وترى المصادر نفسها في رفض التمديد لياسين “رفضاً مُبطّناً لكلّ جهود الجيش في ملفّ ترسيم الحدود، وتجاهلاً للدراسة الأخيرة التي قدّمها الجيش لرئيس الجمهورية، والتي تثبّت حقّ لبنان في التفاوض على الخط 29”.
والخوف الأكبر، لدى المصادر، هو الإعداد لمخطّط تحت الطاولة في إطار توافقات وتسويات سياسية من أجل رسم ملامح المرحلة المقبلة يكون ملفّ ترسيم الحدود أحد أثمانه، تماماً كما تمّ البيع والشراء بهذا الملف عام 2011، وللمفارقة على أيام ميقاتي أيضاً”.