كتب الدكتور يقظان التقي المثقّف والإعلامي في إذاعة الشرق وتلفزيون المستقبل على صفحته بالفيسبوك، قائلاً: “وين عم يتقبّلوا التهاني الشباب نهاد المشنوق وغازي زعيتر وفنيانوس..؟”، وذلك بعد كفّ يد المحقّق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار إثر تقدّم النائب المشنوق بدعوى ردّ للقاضي أمام محكمة الاستئناف. وكرّت سُبحة التعليقات على ما كتبه يقظان، وبدا لافتاً تعليقُ عضو لقاء سيّدة الجبل عطا الله وهبي الذي قال: “ببيت الحاج وفيق”، فيما أحد الناشطين، ويدعى أسعد عُلبي، وعلى قاعدة “لا عرفت ولا قشعت”، كتب: “بالقصر الجمهوري”.
استغربت كثيراً تعليق الدكتور يقظان التقي، وهو المثقّف المتعلّم الهادئ الرصين، كيف يذهب إلى تعليقٍ ساخرٍ كهذا في قضية كبرى، وهو العالِم بالقانون وبالدستور، وأحد أبرز المدافعين عنهما وعن اتفاق الطائف. وزاد استغرابي عندما قرأت تعليق الصديق عطا الله وهبي، وهو المواظب من دون أيّ غياب على اجتماعات لقاء سيّدة الجبل وأخواتها من مبادرات وطنية وكلّ ما شابهها من تجمّعات أنشأها النائب السابق فارس سعيد منذ حلّ الأمانة العامّة لقوى 14 آذار. ولطالما كان شعار كلّ هذه الهيئات “السعيْديّة” التمسّكَ بالدستور واتفاق الطائف ومنع المسّ بهما وتجاوزهما.
إنّ الدعوى، التي تقدّم بها الوزير المشنوق، هي حقّ لا لُبس فيه كفله القانون والدستور، وكلّ مَن يعترض على هذا الحقّ يعمل من حيث يدري أو لا يدري على ضرب القانون والدستور، وعلى ضرب اتفاق الطائف
من المنطق أن يعارض هؤلاء المثقّفون تهديد القاضي البيطار من مسؤول الارتباط في حزب الله وفيق صفا، فهو أمر لا يمكن السكوت عنه مهما كانت تجاوزات القاضي ومخالفاته، وحتى لو وصل الأمر به إلى درجة الافتراء. كلّ هذه الأمور يكون الردّ عليها بالسياسة وبالقضاء، وليس بالتهديد والوعيد. لكنّ ما هو غير مفهوم أن يسكت هؤلاء على تجاوز الدستور واتفاق الطائف، والعمل على إسقاطه، وحتى إلغائه. هم يعلمون علم اليقين أنّ إلغاء الدساتير يبدأ بانتهاك بندٍ وحيدٍ فيها، ثمّ تكرّ السُبحة بعد ذلك رويداً فسريعاً حتى تصل إلى الإلغاء الكامل.
من حقّ الجميع، ومن حقّنا نحن، أن نعارض أيّ تهديد يُوجَّه إلى أيّ إنسان، سواء كان رئيساً أو وزيراً أو نائباً أو قاضياً أو حتى مسنّاً أصابه مرض الألزهايمر ووُضِع في مأوى ودخل مرحلة النسيان. لكنّ واجب علينا أيضاً أن ندافع عن حقّ أيّ إنسان بالدفاع عن نفسه بوجه أيّ اتّهام، سواء أكان الاتّهام صادقاً أم افتراءً، وذلك بالوسائل التي أتاحها القانون والدستور.
إنّ ما قام به الوزير الأسبق يوسف فنيانوس من دعوى ارتياب هو حقّ كفله له القانون والدستور، وكذلك دعوى الردّ التي تقدّم بها الوزير نهاد المشنوق هي حقّ أيضاً لا لُبس فيه كفله له القانون والدستور، بخاصة أنّ الوزير المشنوق لم يَستمع إليه أحدٌ قبل الادّعاء عليه، فيما الادّعاء وجَّه إليه الشُبهة الجرمية الأكيدة بسبب وثيقة عمياء وحيدة تسلّمها تتحدّث عن طاقم السفينة وليس عن شحنتها، ولا تُشير الى إنزال هذه الشحنة عن متن السفينة إلى أرض المرفأ. ولم تأتِ على ذكر العنبر رقم 12، كما جاء في كلّ المراسلات الأخرى التي وُجِّهت إلى رؤساء ووزراء وأمنيّين، وتضمّنت كلّ التفاصيل والمخاطر والتداعيات. وعلى رأس هؤلاء رئيس الجمهورية وقائد الجيش.
إنّ الوزير المشنوق، الذي يُتَّهم بسبب دعوى الردّ بأنّه حليف حزب الله وشريك وفيق صفا، هو أوّل مَن استعمل عبارة “الاحتلال الإيراني للقرار السياسي”، وقد سرق هذا التعريف الكثيرون في بيانات لقاءاتهم وتجمّعاتهم وإطلالاتهم التلفزيونية المدفوع منها وغير المدفوع. وهو أوّل مَن طالب بتحقيق دولي في جريمة انفجار المرفأ لمعرفته الأكيدة، مثل كثير من اللبنانيّين، أنّ التحقيق المحلّيّ دونه استحالات كبرى آخرها تهديد وفيق صفا للقاضي البيطار، فيما صمت الكثيرون في لحظة الانفجار، إمّا تواطؤاً أو جُبناً. لقد كان أوّل مَن وجّه أصابع الاتّهام إلى إسرائيل.
إنّ الوزير المشنوق، الذي يُتَّهم بسبب دعوى الردّ بأنّه حليف حزب الله وشريك وفيق صفا، هو أوّل مَن طالب بتحقيق دولي في جريمة انفجار المرفأ لمعرفته الأكيدة، مثل كثير من اللبنانيّين، أنّ التحقيق المحلّيّ دونه استحالات كبرى
إنّ الدعوى، التي تقدّم بها الوزير المشنوق، هي حقّ لا لُبس فيه كفله القانون والدستور، وكلّ مَن يعترض على هذا الحقّ يعمل من حيث يدري أو لا يدري على ضرب القانون والدستور، وعلى ضرب اتفاق الطائف. إنّه يقف في خندق واحد مع سليم جريصاتي قائد فريق الدفاع عن حزب الله في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
مَن يرى في هذا الحقّ القانوني غضاضة، عليه أن يرفع الصوت مطالباً بتعديل الدستور والقانون لا أن يدّعي التمسّك بهما في البيانات ويؤيّد انتهاكهما في الممارسات والاستحقاقات. ففي ذلك نفاق يُعرَف في كلّ المراجع بـ”أن تقول بما لا تعمل وتعمل بما لا تقول”.
القضاة، يا سادة يا كرام، بشر مثلنا يصيبون ويخطئون، وهم ثلاثة أنواع كما قالت الأحاديث النبويّة والتعاليم الدينية وشُرعة حقوق الإنسان. قاضيان من الثلاثة في النار وقاضٍ في الجنّة. الأوّل ذهب إلى النار لأنّه قضى بالهوى. أمّا الثاني فذهب إليها لأنّه قضى بغير علم. فيما الثالث كان نصيبه الجنّة لأنّه قضى بالحقّ. أمّا المتّهم وفقاً لكلّ هذه المراجع فيخضع لقاعدة واحدة تقول: “البيّنة على مَن ادّعى واليمين على مَن أنكر”. والإنكار هنا يكفله القانون، كما أنّ البيّنة تخضع لحكم القانون والدستور.
أيّها الأصدقاء والمثقّفون، عودوا جميعاً إلى اتفاق الطائف، إلى الدستور، وإلا فلْنقُل بصراحة “نحن لا نريد هذا الدستور”. حينها تعالوا جميعاً كي نمزّق اتفاق الطائف ونضع دستوراً جديداً نتّفق على قواعد صياغته مستندين إلى الجغرافيا أو الديموغرافيا أو العدديّة أو ربّما النوعيّة. اختاروا المعيار العادل الذي تريدون.
إقرأ أيضاً: هل تُنهي القمّة الروحيّة “انقسام المرفأ” الطائفيّ؟
لقد هالني ما كتبه الدكتور يقظان التقي، وهو الحرّ في كتابة ما يشاء، لكنّ الهول أن تصل النُخبة إلى تبنّي الشعبويّة ومنطق العوامّ، وهنا تكون “أزمة وعي”، وهي أزمة أخطر من كلّ الأزمات.
مسؤول أمنيّ يُشهد له بالكفاءة قال لي في لقاء خاص: “لقد أخطأ القاضي طارق البيطار بأنّه بدأ من حيث يجب أن ينتهي”. عسى ولعلّ النخب السياسية والإعلامية، أو مَن تُطلق على نفسها اسم “ثورة”، أن لا تبدأ من حيث يجب أن تنتهي.