لبنان ضحيّة مستحيليْن

مدة القراءة 5 د

كان منطقيّاً أن يصل لبنان، في ظلّ “العهد القوي”، إلى ما وصل إليه من خراب وانهيار ودمار وفوضى، وتحوُّله إلى أرض طاردة لأهلها، خصوصاً المسيحيين منهم. فهذا عهد لا يستطيع القيام بأيّ إصلاحات من أيّ نوع.

تظلّ “الإصلاحات”، ولا شيء آخر غير الإصلاحات، كلمة السرّ في كلّ الزيارة التي قام بها رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي لباريس قبل أيّام، ولقائه مع الرئيس إيمانويل ماكرون. لو كان في استطاعة “العهد القويّ” إجراء أيّ إصلاحات من أيّ نوع، لكان بدأ بإصلاح نفسه… لكان فتح ملفّ الكهرباء والهدر الذي تسبّبت به في ظلّ سيطرة جبران باسيل على وزارة الطاقة مباشرةً أو على نحو غير مباشر، عبر أزلامه، منذ 12 عاماً.

مثلما سيكون مستحيلاً معرفة الحقيقة في تفجير مرفأ بيروت، سيكون مستحيلاً تحقيق الإصلاحات والاستفادة ممّا يبدو أنّ المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد، مستعدّة لتقديمه من مساعدات

لو كان العهد، وهو “عهد حزب الله”، قادراً على فهم ماذا تعني كلمة إصلاحات، لكان استطاع استغلال الفرصة الأهمّ، التي كان يمكنها أن تنقذ الثنائي ميشال عون وجبران باسيل، ولكانت نتائج مؤتمر “سيدر” تحوّلت إلى حقيقة. انعقد المؤتمر في باريس في نيسان من عام 2018. كانت الإصلاحات عنوان المؤتمر، إضافةً بالطبع إلى المشاركة بين القطاعين العامّ والخاصّ. بقي كلّ ما أُقِرّ في المؤتمر، الذي لعب سعد الحريري، رئيس مجلس الوزراء وقتذاك، دوراً في انعقاده، حبراً على ورق. كان مطلوباً بقاء كلّ شيء على حاله مع تركيز خاصّ على الانتخابات النيابيّة التي أُجرِيت في أيّار 2018 بموجب قانون عجيب غريب وضعه “حزب الله” من أجل إيجاد أكثريّة للحزب وإيران في البرلمان.

لا وجود لرغبة في الإصلاحات لدى العهد. لا همَّ لبنانيّاً لدى ميشال عون باستثناء ضمان انتخاب جبران باسيل خليفةً له. لا همّ لدى جبران باسيل سوى امتلاك إمكانات ماليّة كبيرة من أجل ضمان مستقبله السياسي في لبنان أو في جزء من لبنان. بعبارة أوضح، لا وجود لأيّ مشروع وطنيّ لدى العهد الذي يرفض أخذ العلم بمعنى انهيار النظام المصرفي اللبناني أو تفجير مرفأ بيروت. يعيش العهد في عالم آخر لا علاقة له بلبنان ومستقبله ومستقبل أبنائه. لو كان لديه مثل هذا النوع من الهموم، لكان سارع إلى تفادي كارثة انهيار النظام المصرفي، ولكان ركّز على معرفة الحقيقة في تفجير مرفأ بيروت بدل عمل كلّ شيء من أجل كسب الوقت وتمييع التحقيق.

ما يُفترَض باللبنانيين تذكُّره في كلّ وقت أنّ رئيس الجمهورية سارع، مباشرة بعد تفجير مرفأ بيروت، إلى قطع الطريق على تحقيق دولي في هذه الكارثة.

لماذا حدث ذلك؟ أين البراءة في ذلك؟

الجواب بكلّ بساطة أنّ المطلوب تفادي معرفة الحقيقة. إذ تبدو الحاجة إلى الدخول في زواريب ومتاهات بدل تحقيق دولي شفّاف، وبدل الذهاب إلى معرفة مَن وراء شحن نيترات الأمونيوم وتخزينه في أحد عنابر مرفأ بيروت طوال سنوات وسنوات. ما أفشلته المحكمة الدولية، التي أقرّها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بعد اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005، قد ينجح حالياً عبر اتّباع أسلوب إضاعة الوقت وتوجيه الاتّهامات إلى هذه الشخصيّة السياسيّة أو تلك.

مثلما سيكون مستحيلاً معرفة الحقيقة في تفجير مرفأ بيروت، سيكون مستحيلاً تحقيق الإصلاحات والاستفادة ممّا يبدو أنّ المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد، مستعدّة لتقديمه من مساعدات. قد يتمكّن نجيب ميقاتي، الذي أخَّر تشكيلَ حكومته رفضُ شخصيّات تمتلك حدّاً أدنى من الكفاءة المشاركة فيها، من تحقيق إنجازات متواضعة. قد يحدث ذلك بفضل رصيده الشخصي في فرنسا، وربّما في أماكن أخرى. لم تقبل المشاركة في هذه الحكومة سوى شخصيّات لا تمتلك، في معظمها، أيّ مؤهّلات. هذه شخصيّات تصلح لكلّ شيء باستثناء تحمّل المسؤوليّة. تصلح هذه الشخصيّات للعب أدوار محدّدة مطلوب لعبها في هذه المرحلة، أدوار من نوع المشاركة في عرقلة الإصلاحات والمساهمة في التغطية على معرفة الحقيقة في تفجير مرفأ بيروت عبر إدخال التحقيق في المماحكات اللبنانيّة والتجاذبات الطائفيّة والمذهبيّة.

مرّة أخرى، ما الذي يمكن توقّعه من حكومة لا علاقة لرئيسها بالوزراء فيها في مجال الفهم في السياسة والاقتصاد وما يدور في المنطقة والعالم؟ لا يمكن توقّع الكثير، خصوصاً أنّ كلمة الإصلاحات غير موجودة في قاموس “العهد القويّ” الذي يظنّ أنّه ليس مهمّاً مصير لبنان، بل المهمّ مصير جبران باسيل. هذا الرجل، بطل أعجوبة الكهرباء والسدود، الذي لعب دور ممثّل إيران في مجلس جامعة الدول العربيّة وكلّ ما له علاقة بقطع علاقات لبنان العربيّة والدوليّة. المفارقة أنّ مصير لبنان على المحكّ في وقت يراهن فيه رئيس الجمهوريّة وصهره على انتصار “محور الممانعة” من دون معرفة النتائج المترتّبة على غياب أيّ رغبة في التمييز، عربيّاً ودوليّاً، بين الجمهوريّة اللبنانية من جهة، و”حزب الله” من جهة أخرى.

إقرأ أيضاً: ميقاتي يقدِّم التنازل الأوّل: الكهرباء بشروط باسيل

هناك دولة واحدة مستعدّة للتعاطف مع لبنان. هذه الدولة هي فرنسا التي لعبت، عبر رئيسها، دوراً في تشكيل الحكومة الحالية. لكنّ فرنسا نفسها تشترط  إجراء الإصلاحات المطلوبة. سيكتشف الرئيس ماكرون وآخرون قريباً أنّ مشكلة فرنسا مع لبنان في غاية الوضوح. إنّها ليست مشكلة إصلاحات بمقدار ما هي مشكلة عهد ليس في مقدوره القيام بأيّ خطوة في هذا الاتجاه… وسيكتشفون أيضاً أنّ لبنان واقعٌ بين مستحيليْن، بل ضحيّة مستحيليْن. مستحيل الإصلاحات ومستحيل معرفة حقيقة تفجير مرفأ بيروت.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…