قدّم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي التنازل الأوّل لفريق رئيس الجمهورية بإسقاط إصلاح قطاع الكهرباء من جدول الأعمال، مع علمه أنّ هذا البند بالتحديد يتصدّر قائمة شروط أيّ برنامج يمكن أن يُكتَب له النجاح مع صندوق النقد الدولي.
قال ميقاتي بصريح العبارة إنّ تعيين الهيئة الوطنية لتنظيم قطاع الكهرباء مرفوض (يقصد من فريق رئيس الجمهورية) في ظلّ القانون الحالي لتنظيم قطاع الكهرباء (قانون رقم 462 تاريخ 2/9/2002)، فيما التعديلات (التي قدّمها العونيّون) على القانون تجعل من هيئة تنظيم القطاع أشبه بجهاز استشاريّ لوزير الطاقة. ما الحلّ؟ يقول ميقاتي: “بدّي بالوقت الحاضر مشّي الكهربا”.
بدا ميقاتي مدركاً منذ اللحظة الأولى لمدى الحاجة إلى دفعة من “المكاسب السريعة” (quick wins) يستهلّ بها عودته إلى السراي الحكومي، ويكتسب بها زخماً يُعينه على اكتساح شيء من الألغام الكثيرة في الطريق، لكنّ الأمر لا يبدو يسيراً
لمعرفة خطورة هذا التنازل لا بدّ من العودة إلى الكلمة التي ألقتها المديرة العامّة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا في المؤتمر الدولي لدعم الشعب اللبناني الذي استضافته فرنسا افتراضيّاً في الرابع من آب الفائت. وضعت جورجييفا أربع نقاط محدّدة “يتعيّن التحرّك فيها”، ويمكن اعتبارها شروطاً صريحة لمساعدة لبنان، أولاها “معالجة ضعف الحوكمة”، و”مكافحة الفساد”. وفي هذا البند قالت حرفيّاً: “أودّ التركيز هنا على قطاع الطاقة باعتباره أهمّ مجال للتحرّك، واستكمال تدقيق حسابات مصرف لبنان والشركة المعنيّة بتقديم إمدادات الكهرباء”.
الملاحظة الأهمّ أنّها جعلت إصلاح قطاع الطاقة أولى أولويّات الحوكمة ومكافحة الفساد وتحسين وظائف الدولة. والملاحظة الثانية أنّها ساوت تماماً في مطلب التدقيق بين مصرف لبنان ومؤسسة كهرباء لبنان (للمناسبة، لم تذكر “التدقيق الجنائي” كما يروّج فريق رئيس الجمهورية، وإنّما اكتفت بذكر “التدقيق”، والفرق بينهما شاسع).
يضع ميقاتي ذلك جانباً، ويبدأ من منطلق أنّ الأهمّ توفير الكهرباء للناس، ولو بشروط صهر الرئيس التي تُخِلُّ بأوّل شروط الإصلاح التي يطلبها صندوق النقد.
إنّ الوقت، الذي انقضى منذ أن دخل ميقاتي السراي الحكومي، قصيرٌ جدّاً، وأن يتلاشى الزخم الذي أتى به الرجل بهذه السرعة فتلك إشارة غير مبشِّرة.
في ظروف كهذه، يلعب سعر الصرف دور ميزان الثقة لدى الرأي العام، وقد أدّى التراجع السريع للدولار في الأيام الأولى للتشكيل دوراً في رفع المعنويات في الشارع، وتحسّن منسوب الآمال بتحقيق اختراق في جدار الأزمة. لكن في الأسبوع الثاني لميقاتي في السراي فترت فورة تحسّن سعر الصرف، ولم ينعكس المسار بعد زيارته إلى باريس، إذ إنّها انتهت من دون نتائج صريحة يتواصل بها الزخم.
بدا ميقاتي مدركاً منذ اللحظة الأولى لمدى الحاجة إلى دفعة من “المكاسب السريعة” (quick wins) يستهلّ بها عودته إلى السراي الحكومي، ويكتسب بها زخماً يُعينه على اكتساح شيء من الألغام الكثيرة في الطريق، لكنّ الأمر لا يبدو يسيراً.
تُعَرَّف الـ quick wins بأنّها المشكلات المعقّدة التي يمكن إيجاد حلول سهلة لها، وكان يُؤمَل أن يُدرَج في هذا الإطار إطلاق البطاقة التمويلية، والحصول على تعهّدات بمساعدات خارجية، وتوفير حلول جزئية لأزمة الكهرباء. وتلك عناوين تناولها رئيس مجلس الوزراء في مقابلته مع ألبير كوستنيان مساء الاثنين، لكنّ ما طرحه ظلّ بمعظمه في الإطار العامّ، ولم يتجاوز ما كان سيقوله أيّ رئيس وزراء جديد، غالباً لأنّ الحلول لم تنضج بعد.
لكنّ المشكلة الكبرى أنّ الرجل لم يقدِّم ما يُثبت أنّه يملك عناصر النجاح لمعالجة الأزمة الكبرى بأبعادها الماليّة والنقدية والاقتصادية، سواء على صعيد التفاوض مع حاملي اليوروبوندز، أو إعادة هيكلة القطاع المصرفي، أو التفاوض مع صندوق النقد الدولي، أو الحلّ الجذري لأزمة الكهرباء، أو استقرار سعر الصرف. فتلك مهامّ تتطلّب دعماً خارجياً يمتدّ من السياسة إلى الاقتصاد.
قبل عشرين عاماً وقف رفيق الحريري مع جاك شيراك أمام أدراج الإليزيه، وكانت تلك بداية الطريق نحو مؤتمر “باريس 1” في شباط 2001، ثمّ “باريس 2” في تشرين الثاني 2002.
كان ينبغي لصورة ميقاتي بجانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن تستعيد تلك الصورة، وتضع إشارة في الطريق إلى “باريس 5”. لكنّ المعطيات الموضوعيّة تؤكّد أن ليس بإمكان ميقاتي أن يكون رفيق الحريري، كما لا تتوافر لماكرون أدوات جاك شيراك.
في أزمة عام 2000، كان الخيار بين اللجوء إلى صندوق النقد الدولي بشروطه القاسية، أو طلب المساعدة من الدول العربية ومؤسسات التمويل التنموي الأوروبية. كان رفيق الحريري استثناء قادراً على الخوض في الخيار الثاني. في معادلة “باريس 1″ و”باريس 2″، وصل الحريري المنقطع بين المظلّة الدولية التي وفّرها شيراك، والمظلّة العربية بقيادة السعوديّة، و”الوصيّ” السوري. وفي ظلّ تلك المعادلة خاض معركة إصلاحات صعبة ومؤلمة، شملت فرض الضريبة على القيمة المضافة وزيادة الكثير من الرسوم الحكومية، وإعادة هيكلة “الميدل إيست” وصرف فائض الموظّفين فيها، وتحديث الأنظمة في مرفأ بيروت. وكان يُفترَض أن تُعاد هيكلة “كهرباء لبنان” لولا الرفض السياسي للعمليّة.
أتاحت تلك المعادلة الحصول على مساعدات عربية ودولية سخيّة أتاحت للبنان تجنّب التعثّر في سداد استحقاقاته الدولية، وكان ذلك السبيل الوحيد الممكن للاستغناء عن الدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي.
هذه المرّة المعادلة مختلفة. ليس لدى ميقاتي ولا لدى سواه أيّة أجندة سوى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي الذي كان حتى وقت قريب من المحرّمات في شرع “حزب الله” السياسي، لأنّه يعرف تماماً في أيّة عاصمة يقع مقرّ الصندوق، وبيد مَن مفتاح خزائنه. لكن حتى صندوق النقد لا يكفي، فالأزمة أكبر بكثير ممّا توفّره “كوتا” لبنان في الصندوق، وما من حلّ اقتصادي خارج السياسة، وما من حلّ سياسي للأزمة الاقتصادية في باريس.
شُبِّه لماكرون أنّ بإمكانه كسر الجمود باتصال مع الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، مع علمه أن ليس لدى طهران ما تقدّمه سوى المازوت الوارد بناقلات مطفأة الرادارات وصهاريج عابرة للمعابر غير الشرعية.
إقرأ أيضاً: ميقاتي ودرس فرنسا: السياسة.. قبل الاقتصاد
أمام ميقاتي طريقان اقتصاديّان جوهرهما سياسي: أوّلهما إلى صندوق النقد، يمرّ في واشنطن بكلّ ما تمثّل، وثانيهما إلى الرياض، ومقتضاه أن يتوقّف “حزب الله” عن لعب دور الميليشيا الإيرانية في حروب المنطقة. ومشكلة الرجل أنّ باريس لا تبدو قادرة على تعبيد أيٍّ من الطريقين. ففي الساحة الدولية ينشغل ماكرون هذه الأيام بحضّ الأوروبيين على التوقّف عن “السذاجة” في التعامل مع الأميركيين، وفي الساحة الإقليمية لا يبدو الرجل قادراً على اجتراح معادلة تجمع بين القبضة الإيرانية والرعاية الخليجية.
لكي يحقّق رئيس الحكومة نجاحاً في مهمّة مستحيلة لا بدّ له من خطّة خارقة أو علاقات خارقة. حتى الآن لم يُثبت ميقاتي أنّه يملك أيّاً من الاثنتين.