الاقتصاد أوّلاً.. لكنّ إنقاذ الدستور هو الأساس

مدة القراءة 6 د

ليس من عاقل يعتقد أنّ حكومة نجيب ميقاتي ستحقّق المعجزات، وتنتشل البلاد في أشهر قليلة من أزماتها الاقتصادية والماليّة والنقدية والاجتماعية. لا بل إنّ المتشائمين يجزمون أنّها لن تنجز أيّ خطوة ذات معنى على طريق التعافي، في ظلّ غياب الدعم من جانب دول الخليج العربي التي تعتبر لبنان بلداً محكوماً من حزب الله. وتذهب وجهة النظر المتشائمة هذه إلى أنّ أقصى ما يمكن أن نحصل عليه من الخارج هو بعض المسكّنات وجرعات الأوكسيجين وبعض الدعم للجيش والقوى الأمنيّة لإبقاء لبنان على قيد الحياة.

لكنّ ما جرى عند إعلان التشكيلة الحكومية شكّل بارقة أمل لا يمكن تجاهلها.. في الداخل صدمة إيجابية متوقّعة تُرجِمت تحسّناً في سعر صرف العملة الوطنية، وفي الخارج ترحيب من جانب عواصم القرار والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجموعة الدعم الدولية للبنان وبعض الدول العربية، فضلاً عن مسارعة فرنسا إلى احتضان المولود الجديد ودعوة الرئيس ميقاتي إلى الإليزيه، حيث أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون أنّ بلاده لن تتخلّى عن لبنان، مرفقاً ذلك بتكرار التنبيه إلى أنّ المجتمع الدولي لن يقدِّم أيّ مساعدات إلى بيروت إذا لم تقُم الحكومة بالإصلاحات الضرورية.

إذا نجح الرئيس ميقاتي في النفاذ من ثقب الإبرة، سيُسجَّل له أنّه وضع لبنان على مسار الخروج من انهيار اقتصادي غير مسبوق، وسيكون المرشّح الأقوى لإكمال هذه المهمّة بعد الاستحقاقات المقبلة، وأوّلها الانتخابات النيابية

كلّ ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأنّ هناك أرضية يمكن للرئيس ميقاتي وفريقه البناء عليها لفرملة الاندفاعة نحو الهاوية، وتحديد نقطة انطلاق لمسيرة النهوض الذي يحتاج بالتأكيد سنوات طويلة.

لكنّ المدخل إلى وضع لبنان على هذه السّكّة هو مسارعة الحكومة في الأشهر القليلة المقبلة، وقبل دخول البلاد في أجواء الانتخابات التشريعية في الربيع، إلى القيام بخطوات جدّيّة وحاسمة على طريق معالجة الأساسيّات الملحّة، مثل ملفّات الكهرباء والوقود والدواء وأسعار الصرف، إضافة إلى الشروع في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي يخوضها فريق متجانس وكفوء يتكلّم لغة واحدة ويحمل خطة إصلاحيّة متماسكة ومُقنِعة للأسرة الدولية.

في تقرير صدر منذ أيام، اختصر بنك “غولدمان ساكس” المشهد بالقول إنّ تشكيل الحكومة اللبنانية “خطوة أولى على طريق طويل ضيّق إلى التعافي الاقتصادي، من المرجّح أن يكون محفوفاً بالصعوبات والمخاطر”.

الدستور قبل الاقتصاد؟

النهوض ممكن إذن ولو بشروط قاسية. وإذا نجح نجيب ميقاتي في النفاذ من ثقب الإبرة، طبعاً في حال توافر الظروف السياسية المساعدة، سيُسجَّل له أنّه وضع لبنان على مسار الخروج من انهيار اقتصادي غير مسبوق، وسيكون المرشّح الأقوى لإكمال هذه المهمّة بعد الاستحقاقات المقبلة، وأوّلها الانتخابات النيابية.

لكن لنترك الاقتصاد جانباً، ونطرح السؤال الكبير: هل بالإمكان إخراج لبنان من نهج العبث بدستوره وتدمير نظامه السياسي اللذين طبعا المرحلة الممتدّة من توقيع اتفاق مار مخايل حتى اليوم؟

لقد تعرّض دستور الطائف، الذي ارتضاه اللبنانيون بعد حرب أهليّة مديدة، لسلسلة من الضربات من قبل تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر، اللذين فرضا بقوّة السلاح وبنهج تعطيل المؤسسات مشهداً سياسيّاً قائماً على الغلبة وعلى مفاهيم مبتدَعة تنسف قواعد النظام البرلماني الديموقراطي المحدّدة في الدستور. جرى ذلك في موجتين زمنيّتين..

تعرّض دستور الطائف، الذي ارتضاه اللبنانيون بعد حرب أهليّة مديدة، لسلسلة من الضربات من قبل تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر، اللذين فرضا بقوّة السلاح وبنهج تعطيل المؤسسات مشهداً سياسيّاً قائماً على الغلبة وعلى مفاهيم مبتدَعة

الأولى تصدّرها حزب الله وتمتدّ من تاريخ توقيع الاتفاق حتى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. هي موجة احتلال بيروت بقوّة السلاح، والاعتصام المديد في وسطها، وتعطيل مجلس النواب، وتأخير انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً لإميل لحود مدّة خمسة أشهر. هي الموجة التي شهدت اتفاق الدوحة الذي انبثقت منه بدعتا الثلث المعطِّل وحصّة رئيس الجمهورية في الحكومة، وشهدت أيضاً نسف نتائج انتخابات 2009، وإطاحة رئيس الأكثرية النيابية في الانقلاب الشهير عام 2011. وبلغت هذه الموجة ذروتها بتعطيل المؤسسات والتسبّب بشغور رئاسي دام سنتين ونصف سنة إلى حين فوز لبنان بالرئيس القويّ.

أمّا الموجة الثانية فهي التي تصدّرها ولا يزال رئيس الجمهورية ووريثه منذ خمس سنوات. سلسلة من الهرطقات مبنيّة على ابتداع أعراف جديدة، وعلى ما كتبه يوماً المستشار سليم جريصاتي عن “الإقدام حيث الإتاحة” لملء المساحات الرمادية في الدستور. كلّ ذلك لتطويع النصّ الدستوري، الذي أقسم عون أن يحافظ عليه على الرغم من كراهيته له، وجَعْلِه في خدمة رؤية الرئيس الملك لأصول الحكم.

 

شواهد التخريب

الشواهد على هذا التخريب كثيرة، لكنّ أكثرها فجاجةً هي البدع التي اعتمدها رئيس الجمهورية في التعامل مع تشكيل الحكومات. نذكر منها، على سبيل المثال، المماطلة في الدعوة إلى الاستشارات النيابية المُلزِمة من أجل التدخّل في تسمية المرشّح لرئاسة الحكومة، وتمسُّكه بهرطقة حقّ مزعوم لرئيس الجمهورية في تعيين الوزراء المسيحيين، والإصرار على تفسير خاطىء للدور الذي يحدّده له الدستور في عملية التشكيل، وإساءة استعمال حقّه في توقيع مرسوم التشكيل لدفع رئيس الحكومة المكلّف إلى الاعتذار.

إذا أضفنا إلى ذلك السلوك المهين الذي اُعتُمد أحياناً مع رئيس الحكومة المكلّف، ومحاولة دفع مجلس النواب إلى التراجع عن تسميته في الاستشارات المُلزِمة، وتحويل المجلس الأعلى للدفاع إلى حكومة بديلة، والامتناع عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية في انتهاك فاضح لمبدأ الفصل بين السلطات، نجد أنفسنا أمام صورة فجّة لعمل دؤوب، وعن سابق تصوّر وتصميم، لنسف النظام السياسي اللبناني عبر خلخلة الأسس الدستورية التي يقوم عليها.

وإذا صحّ ما قيل عن أنّ ميشال عون يستند إلى هرطقة دستورية جاهزة تُجيز له البقاء في بعبدا بعد انتهاء ولايته في حال تعذّر انتخاب رئيس جديد، نصبح أمام حالة خطيرة من الجنون السياسي الذي لا يمكن لأحد أن يتكهّن إلى أين سيودي بالبلاد.

إقرأ أيضاً: ميقاتي في الإليزيه: دعم سياسي لن يُترجم مالياً

لنفترض أنّ كفاءة نجيب ميقاتي وحظّه والظروف الداخلية والخارجية قد تساعد كلّها في تمكينه من وضعنا على طريق الإنقاذ الاقتصادي، لكن كيف سيتحقّق الإنقاذ السياسي، ومَن سيعيد النصاب إلى حياتنا السياسية ويزيل كلّ هذا الخراب والعبث والقضم المستمرّ للسيادة والتشويه المتمادي للنظام؟

إنّها أوّلاً وأخيراً معركة كلّ القوى السيادية تحت عنوان وحيد لن نملّ من تكراره، وهو إعادة الاعتبار لدستور الطائف الذي سيبقى ناظماً لحياتنا الوطنية ولعيشنا المشترك.

مواضيع ذات صلة

روسيا ولعبة البيضة والحجر

منذ سبع سنوات كتب الأستاذ نبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” مستشرفاً الأيّام المقبلة. لم يكتب عمّا مضى، بل عمّا سيأتي. نستعيد هذا النصّ للعبرة…

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…