من الطبيعي أن تكون باريس هي الوجهة الأولى في زيارات الرئيس نجيب ميقاتي إلى الخارج (ولا نعتقد بأنّه ستكون زيارات أخرى كثيرة)، وذلك لعدّة أسباب:
أوّلها: أنّ فرنسا هي الراعية الأولى لهذه الحكومة التي طال انتظارها أكثر من 13 شهراً.
الثاني: أنّ اختيار ميقاتي لرئاسة الحكومة، بعد اعتذار سعد الحريري، أتى بإقناع وتسويق وضغط من قصر الإليزيه، وتحديداً من قبل برنار إيميه، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي وصديق الرئيس ميقاتي.
والثالث: أنّ فرنسا هي البوّابة الوحيدة المفتوحة اليوم أمام رئيس حكومة لبنان لمحاولة إحداث تغيير ما في مسار الانهيار الكبير والسريع الذي يشهده لبنان منذ أشهر.
فرنسا تريد أن تعود لأسباب جيوسياسية إلى “موطئ القدم” التاريخي على شرق المتوسط بأيّ ثمن، وتريد أيضاً مواكبة الحكومة الجديدة لحثّها على الإسراع في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والشروع في تنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها سنوات
هذا من الجهة اللبنانية. أمّا من الجهة الفرنسية فقصر الإليزيه لم ييأس بعد من محاولة إنقاذ الوضع اللبناني على الرغم من الفشل الكبير الذي واجه المبادرة التي أطلقها سيّد القصر منذ أكثر من شهر عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. ففرنسا تريد أن تعود لأسباب جيوسياسية إلى “موطئ القدم” التاريخي على شرق المتوسط بأيّ ثمن، خاصة أنّه الأخير لها بعد خسائرها المتلاحقة في المنطقة، وآخِرتها سيطرة روسيا على الواجهة البحرية السورية. وتريد أيضاً مواكبة الحكومة الجديدة لحثّها على الإسراع في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والشروع في تنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها سنوات.
ربّما يأمل بعض اللبنانيين المعلّقين بحبال الهواء فوق “نار جهنّم”، التي وعدهم بها رئيسهم ووفى، أن تكون هذه الزيارة بداية حلحلة للأزمة – الكابوس. فهل هي كذلك؟ وهل بإمكان فرنسا مساعدة الحكومة الجديدة على كبح الانهيار، ثمّ إيقافه وإرساء أساسات الخروج منه؟
الجواب: لا. أمّا الأسباب فعديدة نختصرها بالآتي:
1- إنّ سرعة الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي في لبنان كبيرة جداً. وكبحها تلزمه صدمة إيجابية كبيرة أيضاً، ليس أقلّها ضخّ بضعة مليارات من الدولارات في الاقتصاد اللبناني. هناك مصدران لهذه الدولارات مع فارق كميّاتها: المصدر الأوّل هو صندوق النقد الدولي الذي يمكن أن يقدّم للبنان، إذا ما نجحت المفاوضات ونفّذت الدولة اللبنانية الشروط المطلوبة منها، مبلغاً ربّما يصل في أحسن الأحوال إلى ثلاثة أو أربعة مليارات دولار. وهو مبلغ غير كافٍ لإخراج لبنان من الانهيار. والثاني “مؤتمر سيدر” الذي عُقِد في نيسان 2018، وأقرّ حوالي 12 مليار دولار للبنان، 860 مليون دولار على شكل هبات، والباقي قروض ميسّرة من قبل الدول المانحة تُقدَّم على مراحل، ومشروطة بإصلاحات تبدأ بقطاع الكهرباء ولا تنتهي به. وقدرة فرنسا محدودة في المصدرين. فالدولة الأولى المؤثّرة في صندوق النقد الدولي هي الولايات المتحدة الأميركية المموِّلة الأولى لهذا الصندوق. صحيح أنّ هذه الأخيرة رفعت الفيتو عن مشاركة حزب الله في الحكومة، ولكنّها لم تقرّر بعد مساعدة لبنان للخروج من أزمته. أمّا “مؤتمر سيدر” ففرنسا هي الدولة المنظّمة وليست الدولة التي ستقدِّم المليارات. فهذه كانت ستأتي للبنان من الدول المانحة، وفي مقدّمها الدول الخليجية، وتحديداً المملكة العربية السعودية. وهذه الأخيرة لا تزال على الموقف نفسه من الأزمة اللبنانية. فهي تعتبر أنّ حزب الله يحكم لبنان، وهي على حقّ. لذا لن تفتح صناديقها لدعم البلد العربي الذي أصبح يدور كلّيّاً في الفلك الإيراني. وفي النتيجة ليس متوقّعاً أيُّ تحرير لأموال “سيدر”. لا بل مستبعد جداً ما دام الوضع السياسي على ما هو عليه.
2- إنّ حكومة نجيب ميقاتي ليست الحكومة التي يمكنها إنقاذ لبنان من أزمته حتى لو حصلت على دعم المجتمعيْن الدولي والعربي معاً. والسبب أنّها، بتركيبتها، حكومة استنساخ لحكومات المحاصصة الحزبية السابقة العاطلة والمعطِّلة التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه. مع احترامنا لبعض أفرادها الأكفّاء، يبدو أنّ غالبيّة من سُمُّوا بالاختصاصيين ليسوا على قدر المسؤولية الاستثنائية والتاريخية. فهؤلاء نظريّون ليست لديهم الخبرة في الشأن العامّ، ولا حتّى في التكلّم مع الرأي العامّ. وقد شهدنا وسمعنا وتأكّدنا من خلال خطابات مراسم التسلّم والتسليم والتصريحات التي صدرت فيما بعد من بعضهم. هذا إضافة إلى تصريحات البعض التي أتت قبل تشكيل الحكومة. على سبيل المثال لا الحصر، كلام وزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجار على الحفاضات و”الكلينكس” ومقايضة البطاطا بالبندورة…
أزمة لبنان ليست اقتصادية ولا مالية ولا اجتماعية فقط. فهي في الأساس أزمة سياسية يمكن تلخيصها بنقطتين: استمرار الطبقة السياسية الفاسدة في الحكم واستمرار قبضة حزب الله على السلطة السياسية والأمنيّة والعسكرية في لبنان
3- لم يحمل نجيب ميقاتي معه إلى باريس خطّة حكومية لحلّ الأزمة ولا حتى روزنامة محدّدة للإصلاحات. فـ”خطّة التعافي” التي أقرّتها حكومة حسان دياب، ودعمتها باريس، لا يقتنع بها ميقاتي أصلاً. وهو عيّن النائب نقولا نحاس، الذي يرفض الخطة أيضاً، “قائداً” لفريقه الاقتصادي. إذاً على ماذا سيفاوض ميقاتي “رعاته” الفرنسيين؟ أمّا في ملفّ الإصلاحات، الذي أصبح على لسان كلّ مسؤول دولي يتكلّم عن لبنان، فتركيبة الحكومة الميقاتية لا تبشّر بالخير. ففي الكهرباء، التي هي علّة العلل، خطط الخروج من أزمتها المزمنة ستعود موضع تجاذب بين وزير الطاقة “الباسيليّ” ووزير المال “البِرّيّ”. هذا عدا أنّ أيّ خطة إصلاحية لهذا القطاع تلزمها ملايين الدولارات، وهي غير متوفّرة لا لدى مصرف لبنان ولا في خزينة الدولة الخاوية الخالية. واستعمال جزء من المليار دولار، حصّة لبنان من تقديمات صندوق النقد الدولي، في ملفّ الكهرباء دونه عقبات.
4- إنّ أزمة لبنان ليست اقتصادية ولا مالية ولا اجتماعية فقط. فهي في الأساس أزمة سياسية يمكن تلخيصها بنقطتين: استمرار الطبقة السياسية الفاسدة في الحكم. وهي أعادت تنظيم صفوفها من خلال الحكومة الميقاتية. واستمرار قبضة حزب الله على السلطة السياسية والأمنيّة والعسكرية في لبنان. وها هو اليوم يفتتح إحكام قبضته الاقتصادية على البلاد من خلال المازوت والبنزين الإيرانيّيْن. وأيّ محاولة حلّ للأزمة الاقتصادية والمالية في البلاد، من دون حلّ للأزمة السياسية، هو كلام في غير محلّه، لا بل مضيعة للوقت.
إقرأ أيضاً: الاقتصاد أوّلاً.. لكنّ إنقاذ الدستور هو الأساس
تلذّذ نجيب ميقاتي بالأطباق الفرنسية الشهيّة التي قُدِّمت له في قصر الإليزيه. حصل على دعم سياسي لحكومته مشروط بالإصلاحات التي أعاد الرئيس الفرنسي التذكير بها في المؤتمر الصحافي المشترك. لكنّه لن يعود وفي جعبته مليارات الدولارات من العملة الخضراء. والسبب بسيط: إنّ فرنسا لا تملكها ولا تملك القدرة على إقناع الدول المانحة ولا أوراق ضغط على هذه الدول لمساعدة لبنان.
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة