السعودية + إيران من نيويورك إلى مسقط: اليمن أوّلاً… وبلا أميركا

مدة القراءة 6 د

انسحبت أميركا من المنطقة. هذه مسلّمة جديدة في السياسة علينا أن نعتاد عليها. حتّى وإن كانت لا تزال تحتفظ ببعض القوّات أو القواعد، هنا أو هناك. لكن سياسيّاً غادرت أميركا المنطقة، مع وقف التنفيذ النهائي لأسباب بيروقراطية. وما علينا أن نعرفه أنّ شعوب المنطقة وقياداتها بات عليها أن تتدبُّر أمورها بأنفسها.

من هذه الزاوية يمكن قراءة “حوار نيويورك” غير المسبوق في العلاقات بين دول المنطقة، وتحديداً بين دُول الخليج العربيّ، وفي مقدّمها السّعوديّة، وإيران، الذي عُقِدَ يوم الثّلاثاء الماضي على هامش الجمعيّة العامّة للأمم المُتّحدة.

هذا الحوار هو بداية عصر “المُباحثات الإقليميّة”. إذ قلبَ مشهد الانسحاب الأميركيّ من أفغانستان كلّ الموازين. ويُدركُ كُلّ مَن تابع مُجريات الجمعيّة العامّة للأمم المُتحدة في عهد الرّئيس الأميركيّ السابق دونالد ترامب، ومُجرياتها هذه السّنة في عهد جو بايدن، أنّ الأمور لم تعُد كالسّابق.مَن كان يتخيّل في أيلول 2020 أنّ مدينة نيويورك الأميركيّة ستجمع على طاولة واحدة، وزراء خارجيّة ودبلوماسيّين من السّعوديّة والإمارات وقطر والكويت والعراق والأردن وجامعة الدّول العربيّة والاتحاد الأوروبيّ ومجلس التّعاون الخليجيّ، ومعهم وزير الخارجيّة الإيرانيّ حسين أمير عبد اللهيان من دون أيّ مُشاركة أميركيّة؟

مصادر دبلوماسية كشفت لـ”أساس” أنّ موقف المملكة بشأن الملفّ اليمنيّ كان واضحاً: “لا حلّ قبل وقف إطلاق النّار، أو على الأقلّ وقف الهجمات التي يشنّها الحوثيّون، ومن خلفهم إيران، على أراضي المملكة”

هذه الدورة لم يكن المشهد مُستحيلاً. ففي نيويورك الأميركيّة، وفي دارةٍ عراقيّة، جلَس الأضداد العرب والإيرانيّون، وبحثوا الاستقرار في الشّرق الأوسط على إيقاع “مرحلة ما بعد أميركا”.

 

ما بعد أميركا

باتَ الجميع يُدرك أنّ “العصرَ الجديد” يُحتِّم حوار الدّول المعنيّة من دون واشنطن. فضابطُ الإيقاع الأميركيّ باتَ بحاجة إلى مَن يضبط إيقاعه من الدّاخل وفي تحالفاته، وهذا بدا واضحاً في هجوم ترامب قبل أيّام قليلة على بايدن، حين قال إنّ “الولايات المُتحدة ستتحوّل إلى دولة من دول العالم الثّالث”. وإن كان هذا التّعبير مُبالغاً فيه، إلّا أنّه يشيرُ إلى مأزق سياسيّ تمرّ به الولايات المُتحدة، ويعبّر عن انزعاج جزء من الشعب الأميركي من سياسات بايدن الداخلية والخارجية.

في العودة إلى “حوار نيويورك”، فهو أحد نتائج الإخفاقات الأميركيّة في المنطقة. وقد باتت المملكة العربيّة السّعوديّة تُدرك أنّ “أميركا بايدن” السّاعية خلف اتّفاقٍ نوويّ جديد مع إيران لم تعُد الضّامن لأمن الخليج العربيّ.

في المُقابل، تُدركُ إيران أنّ “أميركا بايدن” المُنسحبة من جارتها أفغانستان، ولاحقاً من العراق، لم تعُد مُهتمّة بمنطقة غرب آسيا على حساب شرق القارّة، حيث النّفوذ الصّينيّ الذي باتَ العدوّ الأوّل للولايات المُتّحدة.

في نيويورك كان التطوّر الأبرز بين السّعوديّين والإيرانيّين، إذ اجتمع وزيرا الخارجيّة حول طاولةٍ واحدةٍ للمرّة الثّانية في أقلّ من شهر بعدَ لقائهما “السّريع” على هامش قمّة جوار العراق التي عُقِدَت في بغداد أواخر الشّهر الماضي. وتأتي هذه اللقاءات “الرفيعة المستوى” بعد سلسلة اجتماعات “أمنيّة” شهدتها بغداد بين الطّرفين بين شهريْ نيسان وحزيران الماضيين.

بحث المُجتمعون في نيويورك ملفّات “استقرار الخليج والمنطقة”. كان اليمن السّعيد الحاضر الأبرز فيها. وقد أكّد الجميع حرصهم على حلّ الأزمة اليمنيّة بالأطُر السّياسيّة.

جاءَ بحثُ الملفّ اليمنيّ على إيقاع “استماتة” الميليشيات الحوثيّة في محاولتها المُستمرّة منذ شهر شباط الماضي للسّيطرة على محافظة مأرب الغنيّة بالنّفط، على الرّغم من الأكلاف البشريّة الهائلة التي تكبّدها الحوثيّون.

مصادر دبلوماسية عليمة بما دار في الاجتماع كشفت لـ”أساس” أنّ موقف المملكة بشأن الملفّ اليمنيّ في الاجتماع كان واضحاً: “لا حلّ قبل وقف إطلاق النّار، أو على الأقلّ وقف الهجمات التي يشنّها الحوثيّون، ومن خلفهم إيران، على أراضي المملكة”.

كان كلام العاهل السّعوديّ واضحاً لا يقبل التأويل: “إيران دولة جارة، ونأمل أن تؤدّي محادثاتنا الأوّليّة معها إلى نتائج ملموسة لبناء الثقة


أمّا على الجانب الإيرانيّ، فأعادَ عبد اللهيان ذكر مزاعم بلاده من أنّها لا تستطيع التأثير على الميليشيات الحوْثيّة. لكن في الوقت نفسه “يُمكنهم المُساعدة في عقد حوارٍ يمنيّ – يمنيّ لحلّ الأزمة”.

 

المحركات العمانية مجدداً

يبدو أنّ هذا الحوار صارَ قريباً، إذ كشفت المصادر نفسها لـ”أساس” أنّ الدّبلوماسيّة العُمانيّة أعادت تشغيل مُحرّكاتها، بُعَيد انتخاب إبراهيم رئيسي في إيران، لعقد طاولة مُباحثات إيرانيّة – سعوديّة في العاصمة العُمانيّة مسقط، بالتّوازي مع عقد طاولة حوارٍ بين اليمنيّين بمباركة كلٍّ من الرّياض وطهران.

بعد حوار نيويورك، كان فصل الكلام مع خطاب خادم الحرمين الشّريفيْن الملك سلمان بن عبد العزيز في الأمم المُتّحدة.

رسَمَ كلام الملك سلمان أُطُر السّياسة الخارجيّة للمملكة وحدود الحوار مع إيران وغيرها، بقوله إنّ “السياسة الخارجية للمملكة تولي أهميّة قصوى لتوطيد الأمن والاستقرار، ودعم الحوار والحلول السلمية، وتوفير الظروف الداعمة للتنمية والمحقِّقة لتطلّعات الشعوب نحو غد أفضل، في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم أجمع”.

أمّا عن إيران، فكان كلام العاهل السّعوديّ واضحاً لا يقبل التأويل: “إيران دولة جارة، ونأمل أن تؤدّي محادثاتنا الأوّليّة معها إلى نتائج ملموسة لبناء الثقة، والتمهيد لتحقيق تطلّعات شعوبنا في إقامة علاقات تعاون مبنيّة على الالتزام بمبادئ وقرارات الشرعية الدولية، واحترام السيادة، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، ووقفها جميع أشكال الدعم للجماعات الإرهابية والميليشيات الطائفية التي لم تجلب إلا الحرب والدمار والمعاناة لجميع شعوب المنطقة”.

إقرأ أيضاً: عبد اللهيان في قمّة بغداد: أهانَ العرب وحيّا سُليماني

هو زَمن الحوارات الإقليميّة، وأهمّها هو ذلك القائم بين السّعوديّة وإيران. لكن يبقى الماضي حاضراً على طاولات المُباحثات. ويبقى الحذرُ حاضراً أيضاً. فالسّعوديّة تعلم علمَ اليقين أنّ التّيّار الإيرانيّ، الذي يُحاورها اليوم، هو نفسه الذي أحرق مبنى سفارتها في طهران وقنصليّتها في مَشهد يوم كان الإصلاحيّون في إيران يسعون إلى حوار المملكة.

مواضيع ذات صلة

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

بين لاريجاني وليزا: الحرب مكَمْلة!

دخلت المرحلة الثانية من التوغّل البرّي جنوباً، التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، شريكة أساسية في حياكة معالم تسوية وقف إطلاق النار التي لم تنضج بعد. “تكثيفٌ”…

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…