أثارت المساعدات، التي قدّمها حزب الله إلى عوائل شهداء وجرحى انفجار “التليل” في عكار، ضجّة كبيرة في الشارع السنّيّ، انعكست سخطاً وغضباً تجاه الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل ونوابه بالدرجة الأولى، وباقي المرجعيّات السنّيّة بالدرجة الثانية.
ردّة الفعل هذه هي بالتحديد ما أراده حزب الله، بل ربّما أكثر. فهو بارع في دكّ حصون المجتمعات وتفكيك لحمتها وتفسيخها إلى زمر وجماعات متناحرة ومتصارعة، عبر أسافين يبتدعها من العدم، كي تسقط المدن والحواضر اللبنانية، وبالأخص السنّيّة، في حجره توالياً كـ”ثمرة يانعة”، لتعبيد طريق حزب الله صوب التحوُّل إلى مرجعيةً لبنانيةً عامة، لا شيعية فقط، وإلى أن يصبح أمينه العام المرشد الأعلى للجمهورية على الطريقة الفارسية الملبننة.
طه لـ”أساس”: المساعدات التي قدّمها حزب الله في عكار تندرج ضمن إطار “الاستثمار السياسي، بالإضافة الى تأليب الشارع السنّيّ ضدّ الحريري وتيار المستقبل، خاصة أنّ الحملة تمّ التسويق لها عبر الإعلام بشكل مبالغ فيه
أمّا رواية الحزب عن فعل الخير، فهي جزء من روايات الحزب التراجيدية، والبروباغندا الدعائية القائمة على التجهيل والأسطرة: إغراق الناس في مستنقعات الفقر وبحور الجهل، فيما يصنع أسطورة الحزب الذي لا يُقهر.
ولا تختلف رواية “فعل الخير” في عكار عن مثيلتها في استيراد المازوت الإيراني وكسر الحصار الدولي الأميركي العربي المزعوم، بل تعدّ مكمّلة لها في سياق تثبيت صورة “البطل المنقذ” في أذهان العامّة، عبر ضخٍّ إعلاميّ مكثّف. ولا بدّ أن تسلك إحدى الروايات على الأقلّ، مدعّمة بصور الشكر المصطنعة، الطريق إلى العقول. ومن الناس مَن سيصدّقها، ومنهم مَن ستجعلهم يشتعلون غيظاً وغضباً من نوابهم ومرجعيّاتهم، وفي كلتا الحالتين، الحزب نفسه هو الرابح.
ضدّان لا يلتقيان
لو كان حزب الله يبغي الخير حصراً، كما يزعم، لأرسل تلك المساعدات إلى العائلات المكلومة، عبر العديد من القنوات التي يبرع في استخدامها، مثل الجمعيات الخيرية التي يديرها، أو بعض المشايخ السنّة الدائرين في فلكه، أو الشخصيات السنّيّة الموالية لمحور الممانعة، من دون أن يظهر في الكادر مطلقاً. بيد أنّ حزب الله ما كان يهدف من تلك المساعدات سوى الصورة أو اللقطة.
تلك اللقطة التي يظهر فيها أبٌ مفجوع بفقدان ابنه، متسربلاً بالحزن، محاطاً بالفقر من كل جانب، كي يشكر سماحة السيّد على مكرمته. أو تلك الأمّ التي تقدِّم آيات الشكر إلى سماحته، وهي تكفكف دموعها التي لم تجفّ، منذ حدوث الانفجار حتى اليوم، تنتظر بأمل لا يمكن أن يموت، ابناً يرقد في العناية المشدّدة، أكثر قرباً إلى الفانية من الباقية، متسلّحة بالأوراد والأدعية التي تبتهل بها إلى الله في كلّ وقت وحين.
لم يجد حزب الله حرجاً أو وازعاً من استثمار آلام العائلات وجراحها، فقط من أجل تلك اللقطات المذلّة، وهو ما اعتاد ممارسته مع أبناء “بيئته” أوّلاً، واليوم يقوم بـ”تصديره” إلى أرض السنّة “الجرداء”. حتى عندما انتشرت أخبار عدم وصول مساعداته إلى عائلات الضحايا السوريين، أعاد حزب الله الكرّة من جديد، وأرسل إحدى العمامات السنّية التي تستظلّ بقوّته وجبروته، مع وفد “تلفزيوني” لرسم الجزء الناقص من الصورة: السوريّون أيضاً يشكرون سماحة الأمين العام على فيض كرمه.
وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فلا بأس من التذكير برجل كان يُكْثِر من أعمال الخير، من دون كاميرات ووفود وبهرجة فارغة على الرغم من أنّه زعيم سياسي. رجل واحد فقط، وليس تنظيماً حزبياً عسكرياً عقائدياً عابراً للحدود، وصلت أعماله، المشروعة منها وغير المشروعة، إلى أربع قارّات. هذا الرجل هو رفيق الحريري الذي لم يخرج الكثير من أعمال الخير التي قام بها إلى العلن إلا بعد استشهاده بأشهر، ومنها بسنوات.
إثر مجزرة قانا عام 1996، قام الرئيس الشهيد بتقديم مساعدات مالية إلى أُسَر الشهداء، وتبنّى تعليم عدد من الأطفال الذين أصبحوا يتامى بعد المجزرة، بسرّية وبعيداً عن الإعلام، مع أنّه كان رئيساً للحكومة، وزعيماً حقيقياً، يستطيع استغلال ما فعله في أكثر من مجال وسبيل، لكنّه لم يفعل لأنّه ببساطة عمل خير، واستمرّ الأمر كذلك حتى أسرّ أحدهم بالخبر عقب استشهاده.
إنّ مبادئ أعمال الخير ثابتة منذ قرون سحيقة، لا تتأثّر بتعاقب الأزمنة وتغيّر الدول، تأتي في طليعتها السرّيّة والكتمان، لا الإعلام والإعلان.
رواية الحزب عن فعل الخير، هي جزء من روايات الحزب التراجيدية، والبروباغندا الدعائية القائمة على التجهيل والأسطرة: إغراق الناس في مستنقعات الفقر وبحور الجهل، فيما يصنع أسطورة الحزب الذي لا يُقهر
هزالة الردّ
في المقابل، كان ردُّ تيار المستقبل على مساعدات حزب الله الماليّة، وعلى تصاعد مشاعر الغضب الشعبي تُجاهَهُ، هزيلاً جدّاً ومدعاة للسخرية والسخط في الوسط السنّيّ قبل غيره.
فبعد صمت استمرّ لأيّام، نشر أنصار المستقبل على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مجموعات “الواتساب” الإخبارية، خبراً من أربعة أسطر:
“الرئيس سعد الحريري يرسل سيارة خاصة لتنقل السيد عمار سالم والد أحد جرحى التليل الى بيروت من أجل ترتيب كافة الاجراءات لنقله إلى الإمارات ليكون بجانب ابنه الجريح”. (الأخطاء الإملائية كما وردت في النصّ).
الخبر وطريقة صياغته الرديئة بحدّ ذاتها كارثية: فهل بات تيار المستقبل عارياً إعلاميّاً إلى هذه الدرجة التي تجعله يستخدم أساليب الناشطين الفايسبوكيين المتواضعين، أو نظرائهم في المجموعات الإخبارية، في الردّ على الاتّهامات التي تُساق ضدّه؟ ومنها تخلّيه عن بيئته الداعمة، وجعلها عرضةً للاختراق من كلّ حدب وصوب.
ثمّ لماذا لم تتمّ الإضاءة على الجهود التي بذلها الرئيس سعد الحريري من أجل نقل الجرحى أصحاب الحالات الدقيقة والشديدة الخطورة إلى الإمارات وتركيا، والتي يقول أكثر من مسؤول في المستقبل إنّها لم تكن لتكون وعلى جناح السرعة، لولا الاتصالات التي قام بها الحريري؟ أين إعلام المستقبل من هذه النقطة؟
يقول الدكتور محيي الدين محمود، الناشط السياسي وطبيب الأسنان، والمسؤول التنظيمي السابق في تيار المستقبل بعكار، في حديث لـ”أساس”، إنّه “لم يعد لتيار المستقبل في عكار إعلام، فهو أصبح رهينة نواب المنطقة المنهمكين في أعمالهم الخاصّة، غير مبالين لا بأبناء عكار ولا بتيار المستقبل”، وإنّه سمع مثلنا بما قام به الحريري من دون التأكّد من ذلك، لافتاً في هذا الصدد إلى أنّ تيار المستقبل غائب كليّاً عن الساحة السياسية والاجتماعية وقضايا الإنماء في المحافظة.
أمّا عن مساعدات حزب الله، فيرى محمود أنّ حزب الله جهّز البيئة العكّارية لتقبل وجوده، بعدما حاصر أهلها في معيشتهم وطبابتهم وتنقّلاتهم ووظائفهم، ثمّ جاءهم بصورة المنقذ. “فهمّهم الوحيد اليوم هو الحصول على أبسط متطلّبات العيش. فقد أنستهم المشاكل الحياتية استشهاد الرئيس الحريري، وأحداث 7 أيار، وقتل الأطفال والنساء في سوريا. لم يعد يعنيهم المشروع الفارسي. جلّ همّهم اليوم صفيحة بنزين، وجرّة غاز، ورغيف خبز”.
من جهته، يؤكّد عضو المكتب السياسي لتيار المستقبل، والمنسّق العامّ الأسبق في عكار المحامي خالد طه، في حديث لـ”أساس”، أنّ المساعدات التي قدّمها حزب الله في عكار تندرج ضمن إطار “الاستثمار السياسي، بالإضافة الى تأليب الشارع السنّيّ ضدّ الحريري وتيار المستقبل، خاصة أنّ الحملة تمّ التسويق لها عبر الإعلام بشكل مبالغ فيه”. ويشير طه إلى أنّ “الكثير من عوائل ضحايا انفجار “التليل” أبى أن يحصل على أيّ مساعدة من حزب الله، وهو الأمر الذي عُتِّم عليه إعلاميّاً بشكل تامّ”.
إقرأ أيضاً: عكّار بين “عتمة” الانفجار و”أضواء” الاشتباكات
ويشير طه لـ”أساس” إلى عمليّة مصالحة تمّت منذ فترة وجيزة، برعاية الحريري، بين عائلتين في إحدى قرى عكار، بعد خلافات أدّت إلى وقوع قتلى وإحراق عدد من المنازل، حيث تبرّع الحريري بمبلغ ماليّ كبير لترميم المنازل المتضرّرة.
لا ينفي طه وجود ضعف في الأداء الإعلامي للمستقبل، ولا سيّما أنّ الناس تتأثّر كثيراً بالإعلام وتتفاعل معه، خاصّة وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام البديل، ولكنّه يعزو عدم العلم بجهود الحريري إلى أنّه يصرّ على إسباغ الصمت على هذه الأعمال الخيرية.