عكّار بين “عتمة” الانفجار و”أضواء” الاشتباكات

مدة القراءة 9 د

في حين كانت عكار لا تزال تلملم آثار انفجار خزّان الوقود في بلدة التليل، وتزفُّ بشكل شبه يومي شهيداً جديداً ينضمّ إلى كوكبة الشهداء، من جرحى الانفجار، اندلعت اشتباكات بين أبناء بلدتيْ عكّار العتيقة وفنيدق، على خلفيّة جمع الحطب في وادٍ مختلَفٍ على تابعيّته العقارية.

ثمّة مَن رأى في ما جرى بين الجارتين اللدودتين محاولة لحرف الأنظار عن انفجار التليل وتداعياته، ولا سيّما أنّ وسائل الإعلام المحليّة أبدت اهتماماً هائلاً بها، لكنّها فرضية غير صحيحة. فخلال اليومين الحاميين بين البلدتين، قام مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي بالادّعاء على كلّ مِن علي الفرج (المستأجر) وجورج إبراهيم (صاحب الأرض) بتهمة تخزين مواد ملتهبة بشكل غير آمن، بالإضافة إلى جرجي إلياس إبراهيم (عمّ صاحب الأرض) بتهمة الإقدام على إشعال الحريق، وهي تهمة قد يصل حكمها إلى المؤبّد، علماً أنّه أُصيب هو أيضاً في الانفجار وحالته خطرة.

يقول دكتور العلوم الاجتماعية محمد المصري، ابن عكّار، إنّ الإعلام لم يُبدِ يوماً اهتماماً بعكار، فكما هي منسيّة من قبل الدولة، كذلك هو الحال من قبل وسائل الإعلام

بيد أنّ هذه الرؤى السائدة في الشارعيْن العكّاري والشمالي، لم تنطلق من فراغ، بل لها أرضيّة استند إليها أصحابها كي يخلصوا إليها. هذه الأرضيّة عُبِّدت ورُصِفت بتضافر عدّة عوامل متشابكة، لعلّ أبرزها كان التعامل الإعلامي المتناقض مع كلتا الحادثتين. ففي قضية الانفجار، هناك تعتيم إعلامي مشبوه فُرِض على القضية، وجرى التعامل معه كأنّه حادث عَرَضيّ نتج عنه بضع وفيات، لا عمل إجرامي أبكى قرىً بأسرها، ويَتَّم أولاداً ورَمَّل نساءً.

 

النفوذ الإعلاميّ العونيّ

ثمّة بون شاسع في التعامل الإعلامي بين انفجارَيْ مرفأ بيروت والتليل، حيث غاب الاهتمام الإعلامي الذي رافق قضية انفجار ميناء بيروت منذ وقوعه حتى يومنا هذا. فلا مراسلين يحاولون الحصول على معلومات عن التحقيق، ولا كاميرات تنقل حزن الأهالي، والأهمّ لا تسريبات بوحي قضائي أو سياسي. اكتفت وسائل الإعلام بنقل مباشر على فترات متقطّعة خلال اليوم الأول للانفجار، وأتبعته برسائل إعلامية مقتضبة في الأيام التالية، وأحجمت عن نقل جنازات الشهداء ما عدا قناة “الجديد”. وقد كان حجم التغطية الإعلامية لانفجار عكار وتداعياته هامشياً وثانوياً مثلما هو قدْر هذه المحافظة لدى الدولة لا أكثر.

أضف الى ذلك أنّ المواقع الإلكترونية الإخبارية سارعت بعد وقت قليل من وقوع الفاجعة إلى تسويق الرواية العونية التي رمت المسؤولية على كاهل تيار المستقبل ونوّابه عبر تسريبات وشائعات تدفّقت كالشلّالات. لكن بمعزل عن صحّة هذه الفرضية من عدمها، كيف يتمّ تسويق مثل هذا الاتّهام الخطير في وقت كانت النيران لا تزال مستعرة؟ وهناك آباء وأمّهات يهيمون على وجههم بحثاً عن أبنائهم المفقودين، وسيارات الصليب الأحمر تنقل الجرحى من مستشفى إلى آخر في محاولة يائسة لإنقاذ أرواح بريئة تلفظ أنفاسها الأخيرة بسبب عدم وجود مستشفيات في المنطقة تستطيع علاجها، بالإضافة الى أنّ التحقيق لمّا يبدأ بعد؟!

فجأة تحوّل هذا التجاهل الإعلامي إلى اهتمام كبير مع اندلاع “المعركة الأهلية الصغيرة” (وفق توصيف الإعلام)، بين أبناء الجسد الواحد، مع التركيز على صور الشباب المدجّجين بالسلاح وعلى “تفاهة” السبب الذي اندلع القتال من أجله، في محاولة لتصوير أبناء عكار أنّهم “برابرة” أو “همج” كما قال الدكتور رضوان السيد في مقالته بموقع “أساس”. بينما حَدَث مثل هذا وأشدّ في مناطق عديدة، مثل قصف محطة محروقات في منطقة الكفاءات (ضاحية بيروت الجنوبية) بالقذائف، والإشكال الذي وقع بالأمس بين بلدتيْ حولا وميس الجبل الجنوبيّتين بسبب الوقود، وسط غياب أيّ اهتمام إعلامي.

وقد عمد الإعلام أيضاً إلى تجهيل الكثير من المعطيات، أهمّها أنّ هذا الجرح العكّاري عمره سنوات، ولم تقُم الدولة بواجبها في تقديم علاج ناجع يؤدّي إلى زواله نهائيّاً، مكتفيةً بمسكّنات موضعية تجعل الجرح معرّضاً للالتهاب من جديد بسبب قطع أشجار أو بسبب تصرّف من هنا أو كلمة من هناك. قضيّة الأراضي المتنازَع عليها هي في عهدة القضاء اللبناني منذ سنوات، فلماذا لم يحصل أيّ تطوّر في هذا المسار القانوني؟

يقول دكتور العلوم الاجتماعية محمد المصري، ابن عكّار، إنّ “الإعلام لم يُبدِ يوماً اهتماماً بعكار، فكما هي منسيّة من قبل الدولة، كذلك هو الحال من قبل وسائل الإعلام، التي لم تظهر على الساحة العكارية إلا عندما اشتدّت المعارك على الجانب السوري”.

وأضاف المصري في حديث لـ”أساس”: “حاولت بعض وسائل الإعلام على الدوام إلصاق تهمة الإرهاب بأهل عكار، وهو ما تبيّن عدم صحّته، إلا أنّ هناك مَن لا يزال يحاول حتى اليوم تعميم هذه الصفة على المحافظة الأكثر حرماناً، التي يكافح الناس فيها فقط للبقاء على قيد الحياة”.

هذا يكشف أنّ طريقة تعاطي وسائل الإعلام مع الحدثيْن العكاريَّيْن، تكشف النفوذ الإعلامي الهائل للتيار العوني، وقدرته على توجيه الأضواء الإعلامية حيثما يشاء، لتحويل أفكاره المتطرّفة ورغباته مثل كلام رئيس الجمهورية وصهره عن جماعات إرهابية في عكار إلى حقائق راسخة في أذهان المواطنين.

يعتبر الوزير السابق معين المرعبي أنّ إقرار قانون التعويضات لأهالي شهداء وجرحى الانفجار هو أقلّ ما يمكن أن يقدّمه نواب عكار، وأنّه لو مُنِح أهالي عكار قاطبة تعويضات مدى الحياة فإنّ ذلك قليل، قياساً إلى ما تعانيه من حرمان وتهميش منذ قيام الدولة

التسابق على ترضية الناخبين

من جانب آخر، حاول نائب عكار العوني أسعد درغام تسجيل هدف سياسي في مرمى خصومه من كتلة المستقبل عبر إعلانه تقديم تكتّل لبنان القوي اقتراح قانون معجّلاً مكرّراً، يرمي إلى اعتبار أنّ شهداء انفجار التليل هم مثل شهداء الجيش اللبناني، بهدف حصول ذويهم على تعويضات الجنود الذين يستشهدون أثناء تأدية الواجب، بالإضافة إلى اعتبار الجرحى، الذين أُصيبوا بإعاقة كاملة أو جزئية، مشمولين مدى الحياة بالتقديمات الصحية للضمان الاجتماعي، والحقوق التي يستفيد منها ذوو الاحتياجات الخاصة.

لكنّ نائب عكار في كتلة المستقبل هادي حبيش، ردّ عليه في اليوم نفسه بأنّ كتلته أيضاً تقدّمت بالاقتراح نفسه، وأنّ من الجيّد دمج الاقتراحين.

وهل يرقد الاقتراحان قريريْ العين في أحد جوارير البرلمان المليئة باقتراحات قوانين لا تُعدّ ولا تُحصى، على أن يتمّ إيقاظهما من سباتهما العميق من أجل استخدامهما مطيّة للحصول على أصوات العكاريين في زمن القحط المالي؟

يعتبر الوزير السابق معين المرعبي أنّ “إقرار قانون التعويضات لأهالي شهداء وجرحى الانفجار هو أقلّ ما يمكن أن يقدّمه نواب عكار”، وأنّه “لو مُنِح أهالي عكار قاطبة تعويضات مدى الحياة فإنّ ذلك قليل، قياساً إلى ما تعانيه من حرمان وتهميش منذ قيام الدولة”.

ورأى المرعبي في حديث لـ”أساس” أنّ بعض نواب المنطقة “يحاولون من خلال الإسراع في إقرار القانون، التغطية والتعمية على أعمال التهريب الهائلة إلى سوريا، إذ يتسابقون إلى مزايدة بعضهم على البعض الآخر، ويتصرّفون بشعبوية كبيرة، ولا سيّما أنّنا على بُعْد أشهر قليلة من الانتخابات النيابية، ولا يُستبعد أن يُستخدَم قانون التعويضات ورقةً انتخابية. ويُبدي المرعبي عتبه الشديد على الرئيس سعد الحريري بالدرجة الأولى، بسبب الإهمال المزمن الذي تعانيه عكار، فأهالي هذه المنطقة المحرومة من أبسط حقوقها، يستحقّون منه اهتماماً يليق بوفائهم له”.

وفي هذا السياق، سَرَت أنباء عن إرسال أحد نواب عكار ممثّلين عنه إلى ذوي بعض الشهداء، عارضاً عليهم مبالغ مالية على سبيل “الديّة”، في محاولة لاستغلال الفقر المدقع الذي ترزح تحت وطأته تلك القرى، والذي ظهر جليّاً في النقل التلفزيوني على محدوديّته. لكنّ هذا الأمر ينفيه رئيس اتّحاد بلديات الدريب الأوسط المهندس عبود مرعب في حديث إلى “أساس”، لافتاً إلى أنّ المساعدات التي تُقدَّم إلى عوائل الضحايا كانت عبر مبادرات قام بها أفراد وجمعيّات خيرية بعيداً عن السياسة والسياسيين. ويؤكّد مرعب أنّ اقتراح القانون المعجّل المكرّر المُقدَّم من قبل نواب عكار هو جدّيّ، وأنّ جميع الكتل النيابية متّفقة على إقراره في أوّل جلسة يعقدها البرلمان.

 

تفجير التليل إلى المجلس العدلي؟

وعلى خطّ موازٍ، تتعالى أصوات في الشارع العكاري تطالب بتحويل القضية إلى المجلس العدلي، ولا سيّما مع الادّعاءين الإضافيّين اللذين قام بهما القاضي عقيقي، وشملا عسكريّين وضباطاً في الجيش والجمارك متورّطين في بيع المحروقات في السوق السوداء وتهريبها إلى سوريا.

يؤكّد المهندس مرعب لـ”أساس” وجود “إصرار لدى الأهالي ولجنة متابعة ضحايا انفجار التليل على تحويل القضية إلى المجلس العدلي لإبعادها عن محاولات التسييس أو المماطلة”، وأنّ “اللجنة، بالإضافة إلى رؤساء البلديات واتحادات البلديات في الدريب، سيتابعون المسار القانوني للقضية، بالاشتراك مع نقيب المحامين في الشمال محمد المراد، ونقيب المحامين في بيروت ملحم خلف، ولن يدّخروا جهداً لإيصال القضية إلى خواتيمها ومناصرة ذوي الضحايا”.

إقرأ أيضاً: العونيون فجّروا عكّار.. واتّهموها بالإرهاب

فهل تطول التحقيقات في قضية انفجار التليل “رؤوساً كبيرة”؟ أم للسياسة رأي آخر سيجعلها تقف عند حدود المدّعى عليهم؟

يجيب الوزير السابق المرعبي بأنّ “التحقيقات لن تصل إلى نتيجة، فكارثة بحجم انفجار مرفأ بيروت لم تتعامل معها القوى السياسية بجدّيّة تناسب حجم الفاجعة حتى اليوم”، معيداً التذكير بالعديد من القضايا التي طواها النسيان، مثل قضية الشيخ أحمد عبد الواحد وغيرها الكثير من القضايا المشابهة.

ويسأل: “ماذا حصل فيها، وأين نتائج التحقيقات؟”. ويرجّح أن تنضمّ قضية انفجار عكار إلى تلك اللائحة.

 

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…