“التسوية.2”: ميقاتي ينسخ تنازلات الحريري… وسيحصد خسائره

مدة القراءة 5 د

يقفز رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي فوق الأزمة الميثاقية، التي ظهّرها بيان المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى السبت الفائت، ليتابع سيره في “التسوية.2” مع رئيس الجمهورية وصهره المعطِّل.

لا يذكّر خطاب ميقاتي التسوويّ بشيء إلا بمحاولات سلفه سعد الحريري في النصف الأول من عهد ميشال عون إلى أن انتهت التسوية الرئاسية إلى المآل الكارثي: بلد معطوب سياسيّاً، ومنهار اقتصادياً وماليّاً ومعيشياً.

كان مآل التسوية الرئاسية نتاج وهمٍ لدى الحريري بإمكان شبك مساومات عملانيّة تقفز فوق العطب الميثاقي لتسيير الإدارة العامّة وتحقيق منجزٍ ما في الاقتصاد. كانت النتيجة أنّ الاقتصاد انهار، والعطب الميثاقي انفجر.

أعدّت حكومتا الحريري في عهد عون موازنتين بعد سنين طويلة من غياب الموازنات، وأتت بوعود الأحد عشر مليار دولار من مؤتمر سيدر، وفتحت صنابير الإنفاق كما لم تُفتَح منذ التسعينيّات، وكانت أدبيّات الحريري ومقابلاته النسخة الأصلية للتقليد الذي يستعيده ميقاتي هذه الأيام: كلامٌ مفعم بالآمال عن التعاون مع رئيس الجمهورية، والفريق الوزاري الواحد (استخدم الرجلان تعابير متطابقة تقريباً)، والإنقاذ الاقتصادي، واستعادة الثقة، والإصلاحات الضرورية المريرة.

يريد الحلف الحاكم، أي العهد والحزب يريدان، رجل أعمال “سنّيّاً” لا مهمّة له سوى أن يطرق أبواب الخليج طلباً للأموال، من دون أن يغيّر شيئاً من انحيازه الكامل إلى “حزب الله”، ومن دون أن يوقف “حزب الله” شيئاً من أعماله العدوانية على دول الخليج

اقترف الحريري أوهام “الترفّع” عمّا بدا له أنّه من صغائر السياسة، فيما كانت أعرافٌ جديدةٌ تضرب الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، وأوّلها ابتداع حصّة خالصة لرئيس الجمهورية، بمعزل عن حصّة حزبه، تعادل حصّة كتلة من عشرين نائباً. ثلاث سنوات من الاستئثار والاستفزاز كان الحريري يقابلهما بأوهام عن منافع الصبر والتسويات وتدوير الزوايا. لم يتّخذ موقفاً حين جمع الصهر المعطِّل استقالات وزرائه ووضعها في دُرجه، ليقول لرئيس الوزراء إنّ قرار إقالته في ميرنا الشالوحي، ولم يضرب على الطاولة حين عقد الصهر اجتماعاً لثلثه المعطِّل في مكتبه في موعد انعقاد جلسة مجلس الوزراء، ولم يقُم بردّ فعل حين عبث الصهر بموازنة عام 2019، بعد تسع عشرة جلسة. وعلى مدى فترتيْ حكومتيْه، سلّم الحريري بجعل جلسات الحكومة في السراي “منزوعة الدسم”، وبترك القرارات المهمّة لجلسات بعبدا، مسلّماً بذلك القسط الأكبر من رئاسة الحكومة إلى رئيس الجمهورية.

كان رهان الحريري على تحقيق منجز واضح في الاقتصاد لتحسين شروط الحضور في الدولة وتعديل موازين التسوية بقدرٍ ما.

تهاوى ذلك الرهان قبل 17 تشرين، ولم تكن تظاهرات ذلك اليوم سوى التعبير المباشر عن انهياره التامّ.

بأيّ شيء تختلف تسوية نجيب ميقاتي عن تسوية سعد الحريري؟ ما الذي يجرّبه ميقاتي ولم يجرّبه سلفه من قبل؟

لا مراء في أنّ التسوية الراهنة تقوم على عناصر أكثر سوءاً ممّا كان عليه الحال في 2016. فالجو السنّيّ في البلاد، من دار الفتوى إلى رؤساء الحكومات السابقين وتيار المستقبل، على طرفٍ نقيضٍ لطرف العهد قد يصل إلى حدّ القطيعة، فيما لا يرى رئيس العهد شيئاً من ذلك، ولا يرى أنّه في أزمة ميثاقية، بل يخرج صهره في جلسة الثقة ليقول إنّ ميزان الأمر الواقع، الذي تشكّلت بمعاييره الحكومة، هو “الأصول” التي تحلّ محلّ الدستور من الآن فصاعداً. استمع ميقاتي ولم يعلّق.

يدخل رئيس مجلس الوزراء إلى السراي بمعادلة ديالكتيكية: معه غطاء سنّيّ لشخصه، وفي وجهه خصام لحكومته وللعهد الذي تعوّمه الحكومة. وبأيّة مهمّة؟ أن يجول على الدول العربية والغربية طلباً للمساعدة. هذه هي حدود دور ميقاتي في سلطة يهيمن عليها عون، ومن ورائه “حزب الله”. هي مهمّة مستنسخة من المهمّة التي أُعطِيت لسعد الحريري حين توهّم أنّ التطوّع للإعداد لمؤتمر سيدر كفيل بضمان دور معتبر له في السلطة، قبل أن يكتشف أنّ المطلوب منه أن يكون جامع مساعدات، ونقطة على السطر.

يريد الحلف الحاكم، أي العهد والحزب يريدان، رجل أعمال “سنّيّاً” لا مهمّة له سوى أن يطرق أبواب الخليج طلباً للأموال، من دون أن يغيّر شيئاً من انحيازه الكامل إلى “حزب الله”، ومن دون أن يوقف “حزب الله” شيئاً من أعماله العدوانية على دول الخليج، في السياسة والأمن والعسكر والإعلام والمخدِّرات.

يظنّ ميقاتي أنّ براغماتيّة رجل الأعمال تكفيه للقفز فوق حقيقة الأزمة الميثاقية بين طائفته والعهد الذي يَعهَد إليه بمهمّة جمع الأموال (من الخصوم!) لإنقاذه. يرُدّ على ملاحظات النواب في جلسة الثقة حاصراً الحديث في الشأن الاقتصادي، وكأنّه لم يصدر بيان عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لرفع الصوت في وجه “الانتقائية والاستئثار والانتقام السياسي والاستهداف”. وتلك عناوين، وإن يكن موضوعها الإطار الضيّق للتحقيقات في تفجير المرفأ، إلا أنّ إطارها السياسيّ الأوسع واضح ولا يحتاج إلى تبيان.

إقرأ أيضاً: التهدئة في الإقليم.. أنجبت حكومة لبنان

كيف يمكن لرئيس مجلس الوزراء أن يقفز فوق بيان المجلس الشرعي؟ وفوق كلام باسيل الذي جعل من كسر التوازن أصلاً عرفيّاً جديداً؟ وفوق التوظيف السياسي لانفجار المرفأ في حرب الإقصاء؟

سيجرّب ميقاتي… وسيكون الفشل من رصيده. أمّا النجاح فلا يضيف إلا إلى عهد لم يعد لديه ما يخسره.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…