كان طبيعياً أن لا تشهد طرابلس، مدينة الرئيس نجيب ميقاتي، مظاهرَ احتفاليّة بعد تولّيه رئاسة الحكومة. ذلك أنّ الطرابلسيّين كانوا قد طلّقوا نوّابهم منذ 17 تشرين 2019، واقتلعوا صورهم وحاصروا منازلهم، وخلعوا ثقتهم بهم أكثر فأكثر، مع تقدّم الأزمات الاجتماعية والمعيشية وغياب النواب، وعلى رأسهم ميقاتي، عن أيّ معالجة فعليّة، وعجزهم عن اتّخاذ أيّ مبادرة تخفّف وطأة الجحيم الذي يلفح وجوه الناس.
ربّما يستند ميقاتي إلى تقديمات مؤسّسات العزم الاجتماعية لينأى بنفسه عن الاستهداف الذي أصاب سائر النوّاب، الذين غابوا ويستمرّون في غيابهم الكامل والتامّ عن القيام بواجباتهم في هذه الأزمة. لكنّ حجم معاناة الناس أصبح أكبر بكثير من أن يغطّيه عمل مركز صحّي أو مساعدات محدودة، مهما بلغ حجمها.
لا يذكر الطرابلسيّون لميقاتي أنّه خاض مواجهة سياسية حاسمة من أجل طرابلس، بل إنّ سلوكه السياسي كان أحد أسباب تعميق الهوّة السحيقة التي انزلقت إليها المدينة على مدى العقود الماضية
يستذكر أبناء طرابلس أنّ مسيرة ميقاتي السياسية لم تستطع إحداث فارق فعليّ في أزمات المدينة الكبرى، أو في تفعيل مرافقها المجمّدة، وهو الذي بدأ مسيرته عام 1998 وزيراً للأشغال العامّة والنقل، ثمّ نائباً عام 2000، فرئيس حكومة عام 2005، إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، ليعود إلى النيابة عام 2009 متحالفاً مع تيار المستقبل، ثمّ يشكّل في 2011 ما عُرِف بـ”حكومة القمصان السود”، التي ضمّته مع ثلاثة وزراء من طرابلس: محمد الصفدي وزيراً للمال، فيصل كرامي وزيراً للشباب والرياضة، والمرحوم أحمد كرامي وزير دولة.
شكّلت حكومة ميقاتي عام 2011 فرصة ذهبية لتحقيق إنجازات نوعيّة لطرابلس، لكنّ أهل المدينة اكتشفوا لاحقاً أنّها كانت حكومة التناحر بين ميقاتي ووزير ماله محمد الصفدي، الذي هجاه لاحقاً هجاءً مقذعاً. واتّهمه بكلّ أشكال التقصير والتآمر في إطار حملة أطلقها في نيسان 2018 استعداداً للانتخابات النيابية، إذ قال: “أنا عملتُ مع ميقاتي، وكنت من الشخصيات التي ساعدت في تثبيت وجوده في رئاسة الحكومة. لكنّ ميقاتي يهوى الفتنة والتفرقة بين الناس، ويكذب باستمرار، ولا يهمّه أمر طرابلس ولا أمر المسلمين ولا أمر أحد، وحتّى أمر البلد لا يهمّه”.
سيطرة جبران باسيل
طبعاً، لم يكن الصفدي بأفضل حال من ميقاتي، وهكذا انقضت مدّة تلك الحكومة في عام 2013 بنتيجة صفر مكعّب، كما قال الوزير المنتفض. فالمعرض بقي خاوياً على عرشه، ولم يشهد أيّ تعديل في قانونه يُطلق يد إدارته في الحركة المالية والإدارية، والمصفاة لم تُؤهَّل، والمرفأ يمضي في التقدّم بالدفع الذاتي بوجود مدير طموح، هو أحمد تامر. وفشل ميقاتي في قوننة شركة “نور الفيحاء” لإمداد طرابلس بالكهرباء، التي سبق أن أعلن تأسيسها من دارته في طرابلس بتاريخ 18 أيلول 2015، لأنّ النائب جبران باسيل عرقل له هذا المسار.
لا يذكر الطرابلسيّون لميقاتي أنّه خاض مواجهة سياسية حاسمة من أجل طرابلس، بل إنّ سلوكه السياسي كان أحد أسباب تعميق الهوّة السحيقة التي انزلقت إليها المدينة على مدى العقود الماضية، وانتهت بسيطرة جبران باسيل على مرافقها الأساسية، من المحافظة ودوائرها، إلى الكهرباء والمصفاة وسائر القطاعات الإدارية. فتمكّن باسيل من اجتياحها وإقصاء أبناء طرابلس عنها وزرع أتباعه في مرافقها، من دون أن يكون لميقاتي، وسائر النوّاب، موقف جريء في التصدّي لهذه الغزوات البرتقالية المتتابعة لمدينتهم.
يمارس المحافظ رمزي نهرا الانحياز السياسي الفاقع، ويدسّ يديه في كلّ المرافق، ومتلاعباً بدوائر سراي طرابلس وبالبلديات، فترتفع الأصوات مطالبةً بوضع حدٍّ لتسلّطه من دون جدوى.
لا يبدي الطرابلسيون تفاؤلاً بوصول ابن مدينتهم إلى رئاسة الحكومة، وهم الغارقون في ظلمات الإفقار والحرمان والتهميش
لم يبذل ميقاتي أيّ جهد حقيقيّ لتنمية ودعم المؤسسات الاجتماعية في طرابلس، ولإنشاء شبكات الدعم والتواصل مع الجهات الدولية والعربية المانحة، بل اهتمّ بمؤسّساته فقط، وهذا ما قصّر فيه بقيّة النواب أيضاً.
ولمّا كان وزير الداخلية في الحكومة الميقاتية بسام مولوي هو ابن طرابلس، فلا شكّ أنّ ظاهرة الفوضى التي تجتاح المدينة تعتبر التحدّي الأهم، ويبقى فرض الأمن بالتعاون مع الجيش الواجب الذي لا يجوز التقصير في القيام به، بالتوازي مع مكافحة ظاهرة الفساد التي تنامت في السلك الأمني نتيجة انهيار الاقتصاد. وهنا تكمن أهميّة فتح التحقيقات الصارمة في الشراكات المتداولة بين عدد من القيادات الأمنيّة ورموز التهريب في الشمال وفي عموم لبنان.
يسري الإحباط عند أهل طرابلسعندما يستذكر هؤلاء أنّه عندما كان في الدولة مال ومكتسبات، تخلّى نواب طرابلس عن واجباتهم تجاهها، فكيف الحال الآن مع إفلاس الدولة وتلاشي مؤسّساتها الدستورية والخدماتية.
ينتظر الطرابلسيون من ميقاتي أن يتحرّك لتحقيق جملة من الأولويّات، أهمّها:
على مستوى طرابلس:
الأولويّة لتحقيق إنجاز بإطلاق شركة “نور الفيحاء” الذي ينتظر منذ عام 2015، وأصبح الآن ضرورة قاهرة، مع غرق طرابلس في الظلام والفوضى السائدة في قطاع الكهرباء والطاقة، والانحياز الفاضح الذي تمارسه المديرة العامّة للنفط أورور فغالي، حتى بات يمكن القول إنّ المدينة تتعرّض لحصار وتواطؤ مع مافيا المولّدات وسرقة المحروقات، خاصّة مع تسرّب معلومات عن خطّة تقودها فغالي مع المحافظ العوني نهرا لتفريغ طرابلس من محطّات البنزين، كما سبق أن تعرّضت فيها المصارف للغزوات والتخريب.
ليس من الطبيعي أن تبقى عاصمة لبنان الثانية بلا فندق، وبدون تعديل في قانون المعرض، بشرط أن لا يسطو عليه باسيل من خلال مرشّحه جو بوناصيف. إذ تبرز خشية من صفقات المال والأعمال على حساب اقتصاد طرابلس وحقوق أهلها.
إقرأ أيضاً: من يشعل “الفتنة” بوقود طرابلس؟
تحتاج طرابلس إلى عناية خاصة في هذه الأزمة على جميع المستويات، لضخّ الحياة في شرايينها اليابسة، لكنّ المعضلة أنّ هناك من يفكّر في أنّ مزيداً من إفقار أبناء المدينة يجعل الاستحقاق النيابي المقبل أرخص ثمناً وأقلّ كلفةً، لأنّ نمط الحفاظ على المقعد النيابي قائم على ادّخار المال والخدمات للأشهر الأخيرة قبل الانتخابات، وإطلاق اليد للرشى والوعود العرقوبية، في ترجمة لواحدة من أعظم المفاسد السائدة في البلد.
لا يبدي الطرابلسيون تفاؤلاً بوصول ابن مدينتهم إلى رئاسة الحكومة، وهم الغارقون في ظلمات الإفقار والحرمان والتهميش. هُمْ ينتظرون منه الانتصار لمشروعه الذي أطلقه من منزله قبل ستّ سنوات، وهو شركة “نور الفيحاء” لتزويد المدينة بالكهرباء. فهل يفرض ميقاتي أولويّات طرابلس، أم يتركها فريسة بلطجة باسيل، فتمضي ولاية حكومته الثالثة كما مضت سابقتاها وكأنّها لم تكن؟