لربّما تكون “صدفة بفعل فاعل” أن تتشكّل الحكومة قبل أيام من تلقّي لبنان حصّته من حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي، بقيمة تزيد على 1.1 مليار دولار. لكن هل تكفي تلك الأموال لاستقرار الليرة وإعطاء الدفعة التي يريدها نجيب ميقاتي لحكومته؟
لم يكن تلقّي الأموال (المرتقب في 16 الجاري) مفاجأة غير محسوبة. كان الموعد التقريبي متوقّعاً منذ أسابيع، ولعلّه أسهم في استعجال التشكيل، ولو استدعى الأمر من ميقاتي بعض القفز على شفا الخطوط الحمر أو أبعد منها.
مشكلة الاستيراد الأساسية، قبل رفع الدعم وبعده، تكمن في النظام المسخ لسعر الصرف المعتمد من مصرف لبنان. ففي ظلّ تعدّد أسعار الصرف والفجوة الجنونيّة بينها لا يمكن لأيّ بنك أن يوفّر دولاراً واحداً للاستيراد
ثمّة “مصادفات” أخرى استبَقَت ولادة الحكومة، أبرزها ثلاث:
– فتح طريق الغاز المصري إلى لبنان، في السياسة كما في الأمن، وتدبير التمويل من البنك الدولي لاستيراده.
– اتفاق شراء الفيول العراقي لاستبداله بفيول يصلح لتشغيل معامل الكهرباء.
– التسليم برفع الدعم كأمر واقع لا تراجع عنه.
مجمل هذه العوامل يوفّر من العملة الصعبة ما قد يتيح استعادة الحدّ الأدنى من انتظام الحياة، مهما بلغ ضيق الحال.
ماذا تجمع هذه “المصادفات” في سلّة الحكومة؟
بالأرقام: الكثير.
على الورق، وبعيداً عن مشاهد طوابير الذلّ أمام محطّات البنزين والرفوف الفارغة في الصيدليات، شهد وضع الدولار في البلاد تطوّراً في غاية الأهميّة، إذ سجّل ميزان المدفوعات في شهر تموز أوّل ارتفاع له بواقع 38.7 مليون دولار بعد 19 شهراً متتالياً من العجز. وهذه تعدّ عمليّاً أوّل زيادة منذ ما قبل اندلاع الأزمة الراهنة أواخر صيف 2019، (ما خلا ارتفاعاً استثنائيّاً في تشرين الثاني من ذلك العام لسبب محدّد هو سداد البنك المركزي لسندات اليوروبوندز، واستفادته من شراء كميّات من الإصدار من السوق الثانوية بحسم سوقيّ كبير).
أضف إلى ذلك أنّ الموجودات الخارجية للمصارف التجارية ارتفعت بنحو 335 مليون دولار في تموز، وفق التقرير الشهري الأخير لجمعية المصارف، لتصل إلى 13.53 مليار دولار.
ماذا يعني ذلك؟
يعني أنّ الدولارات التي دخلت إلى النظام المالي اللبناني (البنوك ومصرف لبنان) فاقت الدولارات التي خرجت منه في تموز، وهذا ما يُعبَّر عنه بالتغيّر في صافي الموجودات الخارجية للقطاع المالي. وهذا تطوّر كبير بالنظر إلى أنّ العجز المسجّل في ميزان المدفوعات خلال العام الماضي تجاوز 10.5 مليارات دولار، بمعدل 880 مليون دولار تقريباً كلّ شهر، قبل أن يتراجع العجز تدريجيّاً، ويسجّل ما معدّله 517 مليون دولار شهرياً في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي.
من أين أتى الفائض في تموز؟
مصادر الدولار الطازج، الذي يدخل إلى البلاد، معروفة، بدءاً من تحويلات المغتربين بالدرجة الأولى، ثمّ إنفاق المغتربين الزوّار، ثمّ القليل منها يأتي من السياحة والصادرات. في المقابل، يخرج الدولار للاستيراد وعبر عمليات تهريب الأموال إلى الخارج والتحويلات الأخرى.
تحقَّقَ التوازن بين الدولار الداخل إلى البلاد والدولار الخارج منه في تمّوز بفضل عاملين:
1- تدفّق أموال المصطافين والسيّاح صيفاً من جهة.
2- قابله من الجهة الأخرى قرار مصرف لبنان تقنين الاعتمادات التي يوفّرها لاستيراد المحروقات والفيول والسلع الأساسية. الأمر الذي خفّف من استنزاف احتياطات العملة الصعبة لديه.
يكفي أنّ مصرف لبنان خسر 14.3 مليار دولار من احتياطاته في 2020، بمعدّل 1.2 مليار دولار تقريباً كلّ شهر، فيما تراجعت وتيرة انخفاض الاحتياطات إلى 565 مليون دولار شهرياً في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي، بمجموع 4 مليارات دولار تقريباً. لكنّ ثمن هذا التراجع في وتيرة الاستنزاف كان كبيراً وقاسياً، وهو ما نراه من نقص في المحروقات والأدوية والموادّ الأساسية نتيجة التهريب والتراجع الحادّ للاستيراد.
بطبيعة الحال، لن يستمرّ حال تموز وآب طويلاً، فالمغتربون عادوا إلى بلدان اغترابهم، والتراجع الحادّ لمخزون السلع والأدوية والمحروقات لا يمكن أن يستمرّ طويلاً، بل لا بدّ أن تعود حركة الاستيراد إلى حدٍّ معقولٍ بعد رفع الدعم، وبالتالي سيعود العجز التجاري إلى الاتّساع، وسيزداد الطلب على الدولار.
مشكلة الاستيراد الأساسية، قبل رفع الدعم وبعده، تكمن في النظام المسخ لسعر الصرف المعتمد من مصرف لبنان. ففي ظلّ تعدّد أسعار الصرف والفجوة الجنونيّة بينها لا يمكن لأيّ بنك أن يوفّر دولاراً واحداً للاستيراد، وبالتالي سيظلّ العبء واقعاً على كاهل مصرف لبنان في توفير الدولارات، أيّاً يكن السعر الذي سيبيع به الدولار، على 1507 أو 3900 أو سعر المنصّة أو حتّى سعر السوق الحرّة.
هنا لا بدّ من التطرّق إلى مفاجأة صغيرة: ميزان المدفوعات هو حصيلة ميزانين اثنين، أحدهما لدى مصرف لبنان، والآخر للبنوك والمؤسسات المالية. ما لا يتحدّث عنه أحد أنّ العجز يقع فقط في مصرف لبنان وليس في البنوك، والسبب أنّ مصرف لبنان يأخذ على عاتقه وحيداً تمويل الاستيراد مقابل إحجام كامل من الجناح الآخر للقطاع المالي.
بالقياس إلى بيانات العام الماضي، كان متوسّط العجز الشهري في الميزان التجاري يراوح بين 500 و600 مليون دولار، وهذا رقم يمكن لتحويلات المغتربين أن تغطّي جزءاً كبيراً منه لو أنّ الأوضاع طبيعية
بالأرقام، بلغ الانخفاض التراكمي لصافي موجودات مصرف لبنان الخارجية من آب 2019 حتى نهاية تموز 2021 أكثر من 19.6 مليار دولار. أمّا البنوك والمؤسسات، ولهول المفاجأة، سجّلت تغييراً تراكمياً إيجابياً في صافي الموجودات الخارجية بـ 7.3 مليارات دولار خلال الفترة نفسها، وسجّلت زيادة في صافي الموجودات الخارجية في 19 شهراً من الأشهر الـ 23 الأخيرة مقابل نقص في 4 أشهر فقط، وفق ما تُظهر البيانات المنشورة على موقع البنك المركزي.
نعود إلى دولارات صندوق النقد الدولي. كم من الوقت تكفي لبنان؟
بالقياس إلى بيانات العام الماضي، كان متوسّط العجز الشهري في الميزان التجاري يراوح بين 500 و600 مليون دولار، وهذا رقم يمكن لتحويلات المغتربين أن تغطّي جزءاً كبيراً منه لو أنّ الأوضاع طبيعية. لكنّ مشكلة السنتين الماضيتين منذ انفجار الأزمة أنّ ما يدخل إلى البلاد من دولارات لا يظهر في الإحصاءات الرسمية، بفعل انهيار الثقة بالمصارف، وتخزين الدولارات في البيوت (ولدى جمعية القرض الحسن)، وتحوُّل الناس إلى الاقتصاد الورقي، واستفحال اقتصاد الظلّ. وليس أدلّ على ذلك من تدافع الناس لبيع الدولارات المخزّنة في البيوت يوم تشكيل الحكومة، وما بِيع ليس إلا النزر القليل ممّا ظلّ في الخزائن.
لذا شيءٌ من الاستقرار في سوق النقد كفيلٌ بجعل الـ 1.1 مليار دولار كافية لتمويل الاستيراد لِما لا يقلّ عن ثلاثة أشهر أو أكثر. إلا أنّ ما يمكن لدولارات صندوق النقد أن تفعله ليس فقط تمويل عجز الميزان التجاري لبضعة أشهر، بل الأهمّ أنّ فترة التقاط الأنفاس يمكن أن تقنع الناس بالحدّ من إخراج الدولارات من النظام المالي.
لكنّ الواضح أنّ استقرار الدولار يبقى محكوماً بسقف زمني سيعاود بعده الارتفاع بفعل عوامل عدّة، أهمّها:
– الكتلة النقدية التي ستضخّها البطاقة التمويلية، والتي ستنعكس طلباً أعلى على السلع والخدمات، وبالتالي سيعاود الطلب على الاستيراد الارتفاع.
– التصحيح الحتميّ والطبيعيّ للأجور في القطاعيْن العامّ والخاصّ، مهما كان بطيئاً، وأحد تجلّياته زيادة بدل النقل التي ستزيد الكتلة النقدية أيضاً.
– استنفاد أموال صندوق النقد الدولي مع مرور الوقت.
– الاضطرار في نهاية المطاف إلى تحرير سعر الصرف، سواء حقّقت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تقدّماً جدّياً أم لا.
إقرأ أيضاً: قبل رفع الـ3900: أوقفوا مهزلة الـ1500
في محيطنا القريب تجربة مهمّة في الإصلاح الاقتصادي خاضتها مصر، وأوّل دروسها أنّ مسار الإصلاح يحتاج إلى استقرار سياسي وقرارات مؤلمة. وثاني الدروس أنّ استقرار سعر الصرف لا يتحقّق إلا بعد التوصّل إلى اتّفاق – برنامج مع صندوق النقد الدولي. وتلك رحلة شاقّة على عهد يترنّح في عامه الأخير.