قبل رفع الـ3900: أوقفوا مهزلة الـ1500

مدة القراءة 6 د

تقود المناقشات في لجنة المال والموازنة حول رفع سعر الصرف المعتمد في السحوبات النقدية من البنوك إلى هراء جديد لم يُعرَف في تاريخ السياسات النقدية، ولن يؤدّي إلا إلى استفحال الفقر والاقتصاد المعتم والسوق السوداء للدولار.

يتعلّق النقاش برفع سعر الصرف المعتمد في السحوبات بعدما بات يشكّل لبعض الوقت حسماً (هيركات) يفوق 80% من قيمة الأموال المسحوبة من الودائع الدولارية. وسرى كلام عن رفعه إلى 8000 أو 10 آلاف ليرة أو إلى سعر منصة صيرفة، وقيل الكثير عن كيفيّة احتواء أثر ذلك على الكتلة النقدية والتضخّم. وما هذا النقاش إلا التفاف جديد على الحاجة الوطنية العاجلة إلى وقف مهزلة سعر الصرف الرسمي البالغ 1507 ليرات. تلك الحاجة هي الموضوع الأساس الذي يجب أن يُناقَش في اللجان النيابية وفي الهيئة العامة وفي كل مكان آخر ممكن.

البنوك مدينة  للمودعين بـ112 مليار دولار، وتسجّلها في دفاترها بنحو 168 تريليون ليرة، في حين أنّها تعادل بسعر السوق أكثر من ألفيْ تريليون ليرة

يخترع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كلّ يوم مهزلة جديدة للالتفاف على سعر الصرف الرسمي وتقليص استخداماته، لكن مع الإبقاء عليه كذبة كبيرة، إلى حدّ أن يجري نقاش مهزلة في الكواليس حول جباية الضرائب والجمارك والرسوم الحكومية وفق سعر 3900 ليرة، لكن من دون تغيير السعر الرسمي! هل عرفَ تاريخ البنوك المركزية هراء كهذا في أيّ من الدول الفاشلة من قبل؟!

على مدى عامين من عمر الأزمة، استُخدِم سعر الصرف الرسمي لارتكاب كلّ الموبقات والخطايا المالية والمصرفية باسم الحفاظ على لقمة العيش. بقيت آثار الموبقات ولم يبقَ من لقمة العيش شيء.

بفضل سعر الصرف الرسمي يُخفي مصرف لبنان والبنوك فظائع الانكشافات المتراكمة بالعملات الأجنبية، والتي تقارب في مجملها 200 مليار دولار، لتسجّل في الدفاتر بعشرين في المئة من قيمتها الواقعية.

وبفضل سعر الصرف الرسمي، سدّد آلاف المقترضين قروضهم الدولارية بكميّة زهيدة من الليرات العديمة القيمة. فمنذ اندلاع الأزمة في تشرين الأول 2019 حتى اليوم، تم سداد قروض بأكثر من 20 مليار دولار، إمّا بالليرة على سعر 1507، وإمّا بلعبة شراء الشيكات. وانعكس ذلك انخفاضاً لقيمة التسليفات (بالليرة والدولار) من 52 مليار دولار في بداية 2019 إلى 28 مليار دولار حالياً.

وإذا كان من حقّ المقترضين انتهاز الفرصة للتخلّص من الديون بثمن بخس، فإنّ الخسارة من ذلك وقعت على المودعين الذين ذهبت أموالهم للمقترضين بفضل سياسة البنك المركزي النقدية. ولا يمكن التغافل عن استفادة شركات كبرى وأثرياء كثر من هذا الاختلال المقصود أو غير المقصود.

وبفضل سعر الصرف الرسمي ازدهرت تجارة الشيكات، ودخلت البنوك في اللعبة المحرّمة، وارتكبت كلّ الموبقات، وصولاً إلى مضاعفة الإيداعات الدولارية دفترياً بشرط معاملتها معاملة ودائع ما قبل 17 تشرين الأول 2019، لتصبح القوائم المالية للبنوك مسخاً مخجلاً لبلدٍ كان يتباهى بقطاعه المالي.

الأدهى أنّ كل هذه الاختلالات والموبقات تحدث بفعل سعر رسمي بات وهميّاً إلى حدٍّ بعيد. إذ إنّ استخداماته الطبيعية بدأت تتلاشى واحداً تلو الآخر منذ أيلول 2019، حين توقّف البنك المركزي عن التدخّل في سوق القطع، وقصر تدخّله على توفير الاعتمادات لاستيراد الموادّ الأساسية من طحين ودواء ومحروقات. ثمّ كان التخلّي الأوّل عن السعر الرسمي بإدخال أسعار رديفة لتوفير الاعتمادات لاستيراد الموادّ الغذائية، ثمّ للسحب من الودائع الدولارية، بداية على سعر 3200 ليرة للدولار، ثمّ على سعر 3900 ليرة الذي لا يزال مطبّقاً في السحوبات حتى اليوم. وظهرت مع الوقت أسعار الصرف الرسمية الرديفة الأخرى لاستخدامات مختلفة، آخرها سعر منصّة “صيرفة” الأقرب إلى سعر السوق الموازية.

بماذا يسوّغ الرجل تمسّكه بالسعر الرسمي المقدّس؟

زعم الرجل بداية أنّ تثبيت سعر الصرف قرار سياسي اتّخذته الحكومة، وهو ملتزم به، ثمّ أوحى بضرورات الحفاظ على الأمن الغذائي والمعيشي للمواطنين، ثمّ حين بدأ يتخلّى عن بنود الدعم واحداً تلو الآخر، لم يبقَ للسعر الرسمي سوى استخدامات محدودة تقتصر على توفير العملة الصعبة للوزارات وإدارات الدولة ومؤسّساتها لسداد مصروفاتها بالسعر الرسمي، وتوفير الاعتمادات لطحين الخبز ولقائمة محدودة من الأدوية.

لكن ليس من أجل هذا يتمسّك حاكم مصرف لبنان بصنمه، بل لأنّ سعر الصرف الرسمي يستخدم لتزييف ميزانيّته العمومية وميزانيّات المصارف، وإظهار مطلوباتها الأجنبية (أي ما هي مدينة به لمودعيها ودائنيها) بأقلّ من حقيقتها بثمانين في المئة. بكلام أبسط: مصرف لبنان مدين للبنوك بودائع تصل قيمتها وفق تقديرات وكالة فيتش إلى 78 مليار دولار، وهو يسجّلها في ميزانيّته بنحو 117 تريليون ليرة، في حين أنّ قيمتها الحقيقية 1400 تريليون ليرة. وبالمثل، فإنّ البنوك مدينة  للمودعين بـ112 مليار دولار، وتسجّلها في دفاترها بنحو 168 تريليون ليرة، في حين أنّها تعادل بسعر السوق أكثر من ألفيْ تريليون ليرة. في المقابل، تبقى الموجودات الأجنبية لدى مصرف لبنان والبنوك أقلّ بكثير من المطلوبات الأجنبية، وبالتالي فإنّ تحرير سعر الصرف سيكشف هذه الفجوة، ويكشف حقيقة حالة الإفلاس المحيطة بها.

من أجل ستر هذه العورة يتحمّل لبنان عواقب أسعار الصرف المتعدّدة، من تعطّل حركة التجارة الخارجية واضطراب إمدادات السلع واستفحال السوق السوداء للأدوية والمحروقات. ولو أنّ السعر الرسمي تحرّك تدريجياً نحو القيمة التي يحدّدها السوق لسعر الصرف لكانت السوق بدأت بتعديل الكثير من الاختلالات تدريجياً، بما فيها مستويات الأجور. وكلّ ما يُقال عن مخاطر اجتماعية لتحرير سعر الصرف واقعٌ بالفعل، وكان بالإمكان تفادي الكثير منه لو أنّ الفجوة لم تتّسع إلى هذا الحدّ بين السعر الرسمي والسوق الموازية.

ما يجب فعله عاجلاً هو وقف النقاش في السعر الذي تتمّ على أساسه السحوبات، وليبدأ النقاش فوراً في إصلاح سياسة سعر الصرف، وليتحمّل مصرف لبنان والبنوك ما جنت أيديهم

ضيّع لبنان على نفسه موسم الصيف في فوضى أسعار الصرف المتعدّدة، بما أدّت إليه من انقطاع إمدادات السلع الأساسية واستفحال العتمة وطوابير الذلّ أمام محطات البنزين. وضاعت بذلك فرصة لا تعوّض لاجتذاب العملة الصعبة، وسدّ شيء من الفجوة في ميزان المدفوعات، ودعم توازن الليرة. كان إنفاق المغتربين والسيّاح في أشهر الصيف يأتي للبلاد بما لا يقلّ عن ثمانية مليارات دولار سنوياً، ولو أنّ هذا الرقم كان ممكن التحقيق هذا العام لكان كافياً لتمويل ثلثيْ فاتورة الاستيراد بعد تقلّصها الكبير في ظلّ الأزمة، لكنّ الفرصة فاتت كما فات غيرها، ولم تتجاوز إيرادات موسم الصيف ملياريْ دولار. ويقع جزء كبير من اللوم في ذلك على السياسة النقدية التي عطّلت الحياة الطبيعية.

إقرأ أيضاً: دعم المحروقات: 2 مليار $ أرباحاً

ما يجب فعله عاجلاً هو وقف النقاش في السعر الذي تتمّ على أساسه السحوبات، وليبدأ النقاش فوراً في إصلاح سياسة سعر الصرف، وليتحمّل مصرف لبنان والبنوك ما جنت أيديهم.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…