حدّثني السيد عمرو موسى، وهو ما رواه لاحقاً في مذكّراته، عن لقاء الرئيس حسني مبارك مع رئيس وزراء تركيا نجم الدين أربكان عام 1999. وكان مبارك في زيارة رسمية إلى تركيا، حيث التقى الرئيس سليمان ديميريل وعدداً من القادة الأتراك.
في أثناء الزيارة طلب رئيس الوزراء زيارة الرئيس مبارك في مقرّ إقامته زيارة مجاملة، وكان ذلك بحضور وزير الخارجية عمرو موسى. مضت الدقائق الأربع الأولى على ما يرام، وفي الدقيقة الخامسة والأخيرة فاجأ أربكان مبارك بقوله: “سيادة الرئيس، عندي طلب لسيادتكم.. أريد أن تفرجوا عن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين يوجدون في السجون المصرية”. قال مبارك غاضباً: “وأنتو مالكم؟.. اسمع.. إنتو عايزين الإخوان، أبعتهم لكم.. قدموا لي طلباً رسمياً، وأنا أرسلهم لكم”. ثمّ أشاحَ مبارك بوجهه إيذاناً بنهاية اللقاء.
في جولة أيّار 2021، قالت تركيا إنّ المحادثات جرت في أجواء صادقة، وكانت ذات مضمون شامل. وفي جولة أيلول 2021، قالت تركيا إنّ تبادل السفراء مع القاهرة أمر ممكن
كان مبارك متوجِّساً بشأن حُكم نجم الدين أربكان عاميْ 1996 و1997. وكانت الإدارة المصرية ترى خطراً دولياً متصاعداً بشأن مشروع الإسلام السياسي المدعوم خارجياً. ففي ذلك العام (1996) وصل الإخوان إلى الحكم في تركيا. ووصلت طالبان إلى السلطة في أفغانستان، وصعَّد المتطرّفون من ضغوطهم الأمنيّة والفكرية في مصر.
قال لي السيد أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي عمل وزيراً للخارجية في إدارة الرئيس مبارك، إنّ مبارك كان يرى أنّ “أربكان إخوان”، و”إردوغان إخوان”، وأنَّهُ لا يمكن التعامل معهما، فيما كان يرى أنّ “عبد الله غول” هو الأكثر مرونة، وأنَّهُ يمكن التعامل معه.
ثمّة فارق أساسيّ، في تقديري، بين نجم الدين أربكان ورجب طيب إردوغان، ذلك أنّ أربكان كان شخصاً عاقلاً ومسؤولاً. لم يعمل أربكان لأجل فرض نفوذ عسكري هنا أو هناك. ولم يخلق عداءً مع دول الجوار العربي، ولم يتبنَّ مشروعاً يهدف إلى سيادة مشروع الإسلام السياسي خارج تركيا. وكان يدرك ضرورة أن تكون العلاقات جيّدة بين تركيا والعالم العربي.
وكان أربكان يمتلك رؤية تعاونية تجاه العالم الإسلامي، وكان يرى أنَّه لا يمكن أن تنجح أيّة رؤية للعالم الإسلامي من دون وجود مصر فيها. كان شديد الاحترام لمصر ومكانتها ولدورها، أيّاً كان الرئيس الجالس على عرشها. وفي المشروع الإسلامي العالمي، الذي طرحه أربكان بشأن “الدول الثماني الإسلامية”، كانت مصر ذات مكانة خاصة في الفكرة والحركة.
روى لي دبلوماسي مصري، حضر اجتماعاً في تركيا بهذا الصدد، أنّ رئيس الوزراء نجم الدين أربكان زار رئيس الوزراء المصري كمال الجنزوري في مقرّ إقامته، وأنّ كلّ مسوّدات القرارات كان يتمّ عرضها على الجانب المصري من أجل التفاوض بشأن النصّ النهائي.
وحين سألت الدكتور كمال الجنزوري عن ذلك، قال لي: “نعم. كان أربكان إخوانياً، لكنّه كان يعرف حدود الإيديولوجيا ودور السياسة، وكانت لديه عاطفة خاصة تجاه مصر، وقد سمعتُ منه ثناءً شديداً على بلادنا. ولم يكن يريد إغضابنا. وحين غضبتُ من بعض الإجراءات اللوجستية هناك، سرعان ما جاءت التعليمات بتنفيذ كلّ ما نريد”.
إنّ “التلميذ” إردوغان ليس كأستاذه أربكان، ولم يكن خروجه على حزب أربكان ورؤيته واستراتيجيّته مجرّد خروج على التنظيم، بل كان خروجاً على القيم والتقاليد التي التزم بها أربكان. مضى إردوغان وراء أستاذه بماسحةٍ كبيرة، فأسَّس لفكرة التدخّل في شؤون الدول العربية، ثمّ أسَّس لفكرة خروج الجيش بعيداً عن حدود الدولة، والوجود عسكرياً، أو ميليشياًويّاً، في سوريا والعراق وليبيا. ثمّ أسَّس لفكرة الوصاية الإيديولوجية على العالم الإسلامي، وتبنّي خطاب الإسلام السياسي، والعداء لكلِّ ما يمثِّل خطاباً ليبرالياً أو وطنياً.
راحَ إردوغان يعتبر أنّ الربيع العربي هو ربيعٌ تركيّ، وأنّ عام 2011 ليس عام الانطلاق العربي في مصر وليبيا وتونس، بل هو عام الانطلاق التركي في بلدان الثورات.
حدَثَ بُعَيْد الثورة المصرية عام 2011 أنّي التقيتُ وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في فندق “سوفيتيل الجزيرة” على نيل القاهرة، وقد صُدمِت من حجم الغرور الذي يمتلكه الأكاديمي الهادئ. إنّه يجلس في هيئة أستاذ الجامعة المهذّب، لكنّه ينطق كلمات عشوائية متعالية، خالية من عنوان كتابه “العمق الاستراتيجي”.
لم يكن أوغلو في تلك الأثناء يرى سوى طموحات بلاده، وآفاق مشروعه، وكان يتصوّر أنّ أحداث العالم العربي ليست إلاّ فرصة ذهبية لأنقرة، لا فرصة ذهبية لطرابلس أو القاهرة.
عاد أوغلو من القاهرة مصدوماً، كما عاد إردوغان من زيارته اللاحقة مصدوماً هو الآخر. لقد أدرك أنّ مصر أكبر كثيراً ممّا يعتقدون، وأنّ مشروعهم لا يمكنه البقاء حتى لو أمكنه الوصول.
جاءت ثورة الثلاثين من حزيران 2013 أشبه بسقوط قمّة جبل إفرست فوق رأس إردوغان. كان الرئيس التركي يدرك أنّ حجراً عملاقاً سيسقط فوقه، لكنّه لم يكن يدرك أنّ حجم الانهيار لذلك المشروع سيكون حاسماً، مرّةً واحدةً، وإلى الأبد.
أصيب الرئيس إردوغان بما يمكن تسميته “متلازمة 30 حزيران”، حيث راحَ يتحدّث عن مصر والثورة والرئيس عبد الفتاح السيسي.. بلا توقّف. وعلى الرغم من أنّ الرئيس السيسي لم يتحدّث قطّ عن تركيا، ولم يذكر إردوغان بالاسم في أيّة مناسبة، منذ وصوله للسلطة، إلاّ أنّ إردوغان كان مشغولاً بمصر ونظامها على نحو مدهش.
كاتب تركيّ كبير قال لي، وهو كان مقرّباً من الرئيس إردوغان بعض الوقت: “إنّني مندهش ممّا يفعل رئيسنا. إنّه لا يتحدّث في المحافل الدولية عن تركيا، بل يتحدّث عن مصر. إنّ خطابه في اليابان الذي استغرق قرابة ساعة، تحدّث فيه عن مصر ثلاثة أرباع الساعة”.
لم يصمد إردوغان أمام أزمة الاقتصاد، وجائحة فيروس كورونا، وحالة العزلة التي أرادها للآخرين فوقع فيها. وفي عام 2020 راحت أنقرة تغازل القاهرة. وفي عام 2021 كانت جولتان من المحادثات الاستكشافية بين البلدين. فصلت ما بين الجولتين أربعة أشهر، وهي مدى طويل. وقد اعتقد بعض المراقبين أنّ السفير المصري قد يعود، وأنّ المتّهمين المصريين بأعمال إرهابية قد يجيئون هذا الخريف.
في جولة أيّار 2021، قالت تركيا إنّ المحادثات جرت في أجواء صادقة، وكانت ذات مضمون شامل. وفي جولة أيلول 2021، قالت تركيا إنّ تبادل السفراء مع القاهرة أمر ممكن.
كان مبارك متوجِّساً بشأن حُكم نجم الدين أربكان عاميْ 1996 و1997. وكانت الإدارة المصرية ترى خطراً دولياً متصاعداً بشأن مشروع الإسلام السياسي المدعوم خارجياً. ففي ذلك العام (1996) وصل الإخوان إلى الحكم في تركيا
في جولة أيلول كانت مصر قد شدَّدت على التزام تركيا بالخروج تماماً من العراق وسوريا وليبيا. وهي ملفّات باتتْ تحظى باهتمام القاهرة شأنها شأن ملفّات الإخوان وشرق المتوسط. إذْ تريد إدارة الرئيس السيسي حلاًّ شاملاً للمعضلة التركية، وعودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل الجنوح التركي، وهيمنة الإيديولوجيا الإخوانية التي قادت إردوغان إلى ثماني سنوات من القطيعة.
في السنوات الثماني التزمت مصر بكلِّ شيء، فيما لم تلتزم تركيا بأيّ شيء. التزمت مصر بحدودها البحرية، ولم تتغوّل على أيّ حقوق بحرية تركية في شرق المتوسط، وكان ذلك الالتزام طوعيّاً، اتساقاً مع القيم السياسية المصرية. ولم تستجب مصر لدعوات استضافة زعيم جماعة “خدمة” فتح الله غولن، ولم تناصب الدولة التركية العداء. وكانت العلاقات الوثيقة بين مصر واليونان وقبرص موجّهة للتعاون، لا للمواجهة، حيث كان الأمن والاقتصاد عنوانيْ التعاون الثلاثي، ولم يكن حصار أنقرة هدفاً للقاهرة.
لم تقدِّم تركيا بالمقابل أيّة التزامات، بل إنّها راحت إلى كابول تحاول تجديد مشروع الإسلام السياسي في جانبه الأكثر تطرّفاً. تريد أنقرة تأمين خطوط طيران بين ليبيا وأفغانستان لتوسيع مساحات حركتها في تحالف المرتزقة والمتطرّفين.
لن تنجح تركيا في “المشروع الطالباني”، كما لم تنجح في “المشروع الإخواني”. وقد يؤدّي المزيد من التوسّع إلى تأزيم الوضع داخل الدولة التركية ذاتها.
لا يريد الرئيس إردوغان أن يكون لقاؤه الشهير مع أمير الحرب الأفغاني قلب الدين حكمتيار جزءاً من الماضي، ولا يريد أن يعترف بفشل مشروع الإسلام السياسي العربي على نحو نهائي.
إنَّهُ يحارب لأجل الماضي أكثر ممّا يحارب لأجل المستقبل. يضع بلاده عند خطوط النار بدلاً من أن يضعها عند خطوط الإنتاج.
إقرأ أيضاً: مَن يعرقل المصالحة التركيّة المصريّة؟
تريد مصر صلحاً صادقاً مع تركيا، ويريد الشعب التركي الأمر ذاته. وفي عقل إردوغان يتصارع نقيضان: المصلحة الاقتصادية التركية حتى لا تهوي البلاد بعد قليل، والقيادة الإيديولوجية التركية حتى لا تفقد السلطة البريق.
لقد بدأت تركيا بالتهدئة مع مصر، لكنّ ما حدث حتى الآن هو أنّ أنقرة قامت بإلقاء التحيّة، ولكنّها لم تبدأ بالسلام.
*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً لرئيس الجمهورية المصرية السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعتيْ طنطا ومطروح، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.