شهدت العلاقات التركية المصرية تأزّماً سياسياً ودبلوماسياً منذ مطلع شهر تموز 2013، بسبب رفض تركيا لطريقة إزاحة الرئيس المصري السابق محمد مرسي وتمسّكها بدعم جماعات الإخوان المسلمين وفتح أبوابها أمامهم. وسرعان ما تحوّل التباعد إلى خصومة واصطفافات ومواجهات ساخنة في أكثر من ملفّ ثنائي وإقليمي. صحيح أنّ البعض يقول إنّ العلاقات التجارية لم تتراجع على الرغم من التوتّر السياسي، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ أرقام التبادل التجاري بين البلدين لم تتجاوز عدّة مليارات، وهو ما لا يعني الكثير بين دولتين إقليميّتين بوزن تركيا ومصر في المنطقة، وبالمقارنة مع الأرقام التجارية التركية الإسرائيلية أو التركية العراقية أو التركية الإيرانية مثلاً.
رفعت أنقرة مستوى التنسيق مع القيادة الليبية، وزادت عدد الزيارات والعقود والاتفاقات، ثمّ كشفت النقاب عن تنسيقها مع الجزائر وتونس باتجاه عقد قمة ثلاثية تبحث القضايا المشتركة
لماذا لم تتمّ حتى الآن جولة الإياب المتّفق عليها بين أنقرة والقاهرة على الرغم من مرور أكثر من 3 أشهر على اللقاء الأول لجلسة المشاورات التي تمّت بين وفديْهما برئاسة نائبيْ وزير الخارجية في البلدين؟ هل كان هناك تفاهمات بين الطرفين على جولة ثانية تُعقد في العاصمة التركية أصلاً؟ لا بل هل كان هناك خطوات ومطالب متبادلة ينبغي الاستجابة لها قبل الذهاب إلى أيّة طاولة حوار جديدة تجمع الدبلوماسيين من الطرفين؟
نجحت القيادات المصرية في دفع أنقرة إلى الإقدام على الخطوة العملية الانفتاحية الأولى، لكن الخطوة الثانية لم تكتمل بعد. القاهرة متمسّكة بأنّها ليست هي مَن بدأ الخصومة والتصعيد، وأنّها لن تكتفي بالأقوال، بل تريد أن ترى الأفعال. لكن هناك أكثر من مؤشّر إقليمي يقول إنّ مصالح البلدين لا تزال متباعدة ومتضاربة. صحيح أنّ الحماسة والاندفاعة التركيّتين كانتا أكبر من ردود الفعل المصرية التي ظلّت متحفّظة وحذرة بانتظار ما ستُظهره الأيام. وصحيح أيضاً أنّ القيادات السياسية التركية هي التي كانت تصعّد باستمرار ضد القاهرة منذ تطوّرات الأحداث في مصر، وإسقاط الرئيس السابق محمد مرسي وما أسفر عنه من تغيّرات، وعليها أن تتحمّل وزر الخطوة الأولى باتجاه مصر. وصحيح كذلك أنّ الجانب التركي تحرّك سريعاً لمطالبة وسائل الإعلام المحسوبة على مجموعات الإخوان في إسطنبول بتخفيف نبرتها ووقف بعض البرامج السياسية التي تبثّ من هناك ما دام هو الذي عبّر أكثر من مرّة عن رغبته بالمصالحة مع مصر. لكن هناك وقائع على الأرض تُظهر أنّ القاهرة ما زالت متمسّكة بقراءتها لِما جرى في موضوع التوتّر التركي المصري، حيث إنّ أنقرة هي التي اختارت التباعد، مفرِّطة بأهمية مصر ودورها عربياً وإقليمياً، وتسرّعت في التصعيد السياسي والدبلوماسي والإعلامي ضد القيادة المصرية الجديدة بعد عام 2014، وعليها أن تتحمّل ارتدادات منظومة التحالفات الجديدة التي بنتها مصر في الأعوام الأخيرة في شرق المتوسط والخليج العربي والشرق الأوسط.
لا أحد يتحدّث في تركيا ومصر عن صفحة جديدة وتحالف ثنائي إقليمي يغيّر خارطة التوازنات القائمة، وعن عودة سريعة لعلاقات طبيعية، حيث لا يوجد أي مؤشّر بهذا الاتجاه. إذ إنّ الذي يقف في وجه المصالحة التركية المصرية ويحول دون إنجاز اختراق حقيقي باتجاه تحسين العلاقات هو أكبر وأهمّ من ذلك:
1 – المسألة أكبر بكثير من أن تُظهر تركيا حسن نواياها، وتطلب من قنوات الإخوان الناشطة فوق أراضيها وقف استهداف مصر وبعض دول الخليج، وأن تتم مراجعة طلبات التجنيس أو الإقامة المقدّمة لبعض قياداتهم أو التشدّد في مراقبة حركة تحويلاتهم المالية، واستعداد أنقرة لبحث تسليم بعض المطلوبين منهم أو ترحيلهم إلى دولة ثالثة، بل هي مسألة لوائح وأسماء ينبغي دراسة وضعها بشكل مفصّل يأخذ بعين الاعتبار ما تقوله وتريده القاهرة.
2 – تركيا فتحت أبوابها أمام الفارّين من مصر واللاجئين إليها من دون تمييز بينهم منذ 8 سنوات. بعضهم حوكم غيابياً وهو مطلوب للعدالة المصرية، وبعضهم ما زال يُحاكم بأكثر من تهمة، فكيف ستقبل القاهرة بحوار المصالحة مع تركيا التي ترفض بحث هذه الملفات القضائية، وتتمسّك بتوفير الحماية لهم تحت عنوان أنّ اتفاقاتها الدولية تمنعها من تسليم مطلوبين بحكم الإعدام لدولهم؟
3 – ثمّ هناك مشكلة بعض المحسوبين على حزب العدالة في تركيا الذي ما زال حتى اليوم يردّد أنّ إرضاء القاهرة، التي تطالب بتغيير حقيقي في السياسة التركية حيال هذه المجموعات، سيكون مكلفاً لأنّ المسألة ستتحوّل إلى اختبار حقيقي لعلاقات تركيا مع العديد من الرموز والشخصيات المعارضة لأنظمتها في المنطقة التي استقبلتها باسم الملجأ الآمن والدفاع عن حقوق الإنسان، فيما تتّهم الدول، التي ينتمي إليها هؤلاء، أنقرة بالمتاجرة سياسياً بهذا الملف.
القاهرة متمسّكة بأنّها ليست هي مَن بدأ الخصومة والتصعيد، وأنّها لن تكتفي بالأقوال، بل تريد أن ترى الأفعال. لكن هناك أكثر من مؤشّر إقليمي يقول إنّ مصالح البلدين لا تزال متباعدة ومتضاربة
كثرٌ هم مَن يعوِّلون اليوم على الأنباء التي تتحدّث عن أزمة إخوانية تتحوّل تدريجياً إلى قنبلة جاهزة للانفجار بعد قرارات القائم بأعمال المرشد العام للحركة إبراهيم منير إجراء تغييرات جذرية في صفوف المكتب الإداري لشؤون التنظيم بتركيا ومجلس الشورى. وهناك مَن يربط بين هذه التطوّرات وبين رفض الجماعة تطوير ذاتها بما يتناسب مع المرحلة الحالية، ووجود تقارير حزبية رُفِعت إلى إردوغان تكشف النقاب عن ذهاب قيادات الجماعة وراء خيارات وبدائل سياسية جديدة بعد انطلاق الحوار التركي المصري، ومطالبة أنقرة للمؤسسات الإعلامية المصرية المعارضة الناشطة في تركيا بتغيير لهجتها والالتزام بقواعد إعلامية وتحريرية مختلفة تأخذ بعين الاعتبار سياسة تركيا المصرية الجديدة.
لكنّ المسألة أبعد بكثير من أن تكون زيارة بعض قيادات الإخوان في تركيا لرئيس حزب السعادة الإسلامي المعارض تمل كرم الله أوغلو، والتلويح بحصول تفاهمات بين الطرفين لإزاحة إردوغان وحزبه عن الحكم. فلا “السعادة” يملك هذا الثقل الشعبي والسياسي، ولا قيادات الإخوان التي التقته قادرة على مناقشة مسألة من هذا النوع، وهي في بلد يستضيفها منذ سنوات، وأقلّ ما ستُتّهم به هو التدخّل بشؤون تركيا الداخلية الذي ستكون خطوة الردّ عليه الترحيل الفوري إلى مصر.
أسباب التباعد بين قيادات العدالة والإخوان يتقدّمها التحوّل الحاصل في سياسة أنقرة العربية والإقليمية، وقرار الانفتاح على العديد من العواصم العربية، وتراجع أسهم التمسّك بورقة الإخوان حتى النهاية بالمقارنة مع ضرورات التغيير والتحوّل باتجاه جديد فيه الكثير من الفوائد لتركيا. قيادات العدالة والإخوان، على السواء، أمام سيناريو أكبر ربّما يكون مخيفاً. وهو وصول أحزاب المعارضة التركية إلى السلطة وذهابها الحتمي وراء النبش في الأرشيف عن تفاصيل هذه التحالفات وما واكبها من مساومات وصفقات بأكثر من اتجاه ولعبها كأوراق مساومة أو ضغط بأكثر من اتجاه.
منذ مطلع شهر شباط المنصرم والقيادات السياسية التركية تتحدّث عن اتصالات بعيدة عن الأضواء مع القاهرة على مستوى أجهزة الاستخبارات. ثمّ صحّ ذلك من خلال لقاء دبلوماسي بين البلدين في القاهرة قيل إنّه ناقش مطالب وطروحات كل طرف على أمل عقد لقاء جديد في أنقرة هذه المرّة، لكنّه لم يتمّ حتى الآن. الجمود في الحوار، كما يبدو، سببه أوّلاً تمسّك مصر بأولوية إسقاط ورقة الإخوان، وتقييد تحرّكاتهم في تركيا، وضرورة إنهاء هذا الملف الذي تصرّ أنقرة على لعبه ضدّها عند الضرورة، وثانياً إدراك تركيا أنّه من دون إنجاز اختراق وتقدّم حقيقيين في هذا الموضوع لن يكون هناك فرصة للانتقال إلى مناقشة ملف آخر في الحوار بين البلدين.
لماذا لم تتمّ حتى الآن جولة الإياب المتّفق عليها بين أنقرة والقاهرة على الرغم من مرور أكثر من 3 أشهر على اللقاء الأول لجلسة المشاورات التي تمّت بين وفديْهما برئاسة نائبيْ وزير الخارجية في البلدين؟
أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في 12 آذار المنصرم أنّ تعاون تركيا مع مصر في المجال الاقتصادي والدبلوماسي والاستخباري متواصل، ولا توجد أيّ مشكلة في ذلك. وكشف وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو في اليوم نفسه عن بدء الاتصالات الدبلوماسية بين بلاده ومصر بهدف إعادة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها من دون طرح أيّ شروط مسبقة. كان هناك أيضاً ردود مصرية سياسية وإعلامية عديدة، أهمّها ربّما هو ما قاله وزير الخارجية سامح شكري بعد يومين فقط على المواقف التركية: “رصدنا التصريحات التركية حول فتح قنوات الحوار والاتصال مع مصر التي حرصت دائماً على استمرار العلاقات بين الشعبين المصري والتركي. والوضع السياسي ارتبط دائماً بمواقف الساسة في تركيا، خاصةً بعد المواقف السلبية التي اتخذوها تجاه مصر”.
صعّدت القاهرة أخيراً في ملف الأزمة القبرصية، وأعلنت انحيازها الواضح إلى جانب القبارصة اليونان، ورحّبت بالقرارات الأخيرة للرئيس التونسي التي تطول حركة النهضة قبل غيرها هناك. من ناحيتها، رفعت أنقرة مستوى التنسيق مع القيادة الليبية، وزادت عدد الزيارات والعقود والاتفاقات، ثمّ كشفت النقاب عن تنسيقها مع الجزائر وتونس باتجاه عقد قمة ثلاثية تبحث القضايا المشتركة.
إذاً ليست موضوعَ الساعة مسألةُ انطلاقة تحالف استراتيجي تركي مصري يقلب الحسابات والمعادلات رأساً على عقب في المنطقة. هناك توازنات وتحالفات إقليمية ودولية تحول دون ذلك، هذا إذا افترضنا أنّ تركيا ومصر ترغبان في تفعيل مسار من هذا النوع.
إنّ حاجة تركيا إلى خروجها من ورطة ارتدادات ملف الإخوان، والسياسة العربية الإقليمية الجديدة، والأزمات الاقتصادية والمالية، وأعباء وباء كورونا، إلى جانب الاصطفاف العربي ضد السياسات التركية في المنطقة، وما رأيناه من نبرة ولغة تصعيديّتين ضد أنقرة في بيانات القمم الأخيرة، ومرحلة ما بعد المصالحة الخليجية، هي في مقدّم أسباب الرغبة التركية بمراجعة علاقاتها مع مصر. القاهرة تعرف ذلك ولن تفرِّط بسهولة بكل هذه الفرص للوصول إلى ما تريد.
هل يعني ذلك أنّ الحوار يتقدّم بصعوبة؟ .. نعم.
هل يعني ذلك أيضاً أنّ نقاط الخلاف كثيرة إلى درجة استحالة وضع خارطة ترتيب للأولويّات في الحوار والتفاهم؟ نعم أخرى.
إقرأ أيضاً: عودة مصر (3): عروبة ناعمة.. بمواجهة تطرّف تركيا وإيران
هل يعني ذلك أنّ العوامل الإقليمية، التي باتت تتحكّم بمسار العلاقات بين البلدين، لا يمكن إغفالها أو تجاوزها بسهولة، خصوصاً في ملفّات شائكة ومعقّدة مثل ليبيا وسوريا وإيران والخليج وشرق المتوسط.. نعم ثالثة.
إنّ أيّ اختراق محتمل باتجاه إيجابي في مسار العلاقات التركية المصرية لن يكون مع بقاء كل طرف على الرصيف المقابل حتى لو تقدّما في طريق واحدة.
*أكاديميّ وكاتب تركيّ، والعميد المؤسّس لكلّية القانون في جامعة غازي عنتاب، وأستاذ مادّتيْ القانون الدوليّ العامّ والعلاقات الدوليّة.