لم يقُم أحد من قبل بمقاربة موضوع حياد لبنان بالطريقة التي قام بها الرئيس ميشال سليمان. وإذا كان رئيس الجمهورية السابق قد نال شهرة “إعلان بعبدا” الذي أنكره “حزب الله” قبل صياح الديك، فإنّ ما طرحه بالأمس، خلال ندوة مغلقة شارك فيها “أساس”، بشأن مسألة حياد هذا البلد، يُمثِّل امتداداً وتطويراً لذلك الإعلان الذي صدر في 11 حزيران 2012 في ختام أعمال طاولة الحوار في قصر بعبدا، بمشاركة زعماء وممثّلي القوى السياسية والحزبية في لبنان. ومن أبرز بنود ذلك الإعلان “التمسّك باتّفاق الطائف، ومواصلة تنفيذ كامل بنوده”، و”تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدوليّة”، و”التزام القرارات الدوليّة، ومن بينها القرار 1701″، و”اعتبار هذا البيان بمنزلة “إعلان بعبدا” يلتزمه جميع الأطراف، وتُبلَّغ نسخة منه إلى جامعة الدول العربيّة ومنظّمة الأمم المتحدة”. ولم يطُل الوقت حتى شنّ الحزب بلسان رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد حملة على الإعلان لتعارضه مع ثلاثيّة “جيش وشعب ومقاومة”، التي كانت ولا تزال “مسمار جحا” الذي أقام دويلة الحزب، وجعلها ترسانة المشروع الإيراني فوق ركام سلطة دولة لبنان.
هل ما يطرحه الرئيس سليمان اليوم يأتي في ظرف مؤاتٍ وأفضل من الظرف الذي جاء فيه إعلان بعبدا قبل 9 أعوام؟
إقرار الحياد والاتفاق عليه وإدخاله في دستور لبنان هو ضمانة لكلّ الطوائف بعدم تغيير هويّة لبنان، والانطلاق فوراً إلى إلغاء الطائفية السياسية، وصولاً إلى المداورة بالرئاسات
عندما طرح “أساس” على عدد من الشخصيّات، فضّلت عدم نشر أسمائها، هذا السؤال، كان الجواب هو: مشكلة “حزب الله” وقفت ولا تزال تقف عائقاً أمام أيّ بحث جدّيّ لإخراج لبنان من مستنقع أزمة لم يشهد لها مثيلاً منذ قيام الكيان عام 1920.
لنقرأ نصّ مداخلة الرئيس سليمان في “مؤتمر المسيحيين العرب” ضمن ندوة نظّمها “مركز LCRS-Politica”، لمناقشة تداعيات انسحاب الولايات المتحدة الأميركية وقوات حلف “الناتو” من أفغانستان، وسيطرة حركة “طالبان” عليها، وتداعيات هذا الحدث على منطقتنا العربية بشكلٍ عامّ. وقد انعقدت هذه الندوة في بيروت عبر تطبيق تقنيّة ZOOM في 30 آب الماضي.
كانت مداخلة الرئيس سليمان مباشرةً بعد مداخلة المفكّر البارز الدكتور رضوان السيّد.
قال الرئيس سليمان: “حول تأثير ما جرى في أفغانستان على لبنان والعيش المشترك فيه، يجب أن نبدأ بأخذ العبر من هذا الحدث الكبير. العبرة الأولى والأساسية هي أنّه لن يقدّم أحد لنا شيئاً. في أفغانستان، جُهِّز الجيش الافغاني على مدى 20 عاماً بأسلحة متطوّرة، لكن لم تكن لديه إرادة قتال. وفي لبنان إذا لم نتّفق على مسار معيّن نطالب من خلاله، فلن يقدّم أحد لنا الحلّ. نحن بأنفسنا يجب أن نجد حلّاً.
العبرة الثانية أنّ الانسحاب الأميركي سيجعل التسليح الأميركي للجيوش أمراً دقيقاً من الآن فصاعداً. ولا سيّما أنّ كل الأسلحة صارت بيد طالبان. ربّ قائل إنّ هذا ما تريده الولايات المتحدة. لا أعرف. لكن هل تتابع أميركا تسليح الجيش اللبناني بالوتيرة المطلوبة بعدما أجهضوا الهبة الكبيرة السعودية غير المسبوقة بـ3 مليارات دولار؟ أم يتوقّف تسليح أميركا للجيش الذي لا يسلّحه أحد إلا أميركا؟ خصوصاً في ظلّ هيمنة حزب الله على القرار اللبناني، قرار السلم والحرب، والقرار السياسي والخارجي؟ مثلما قال الدكتور “رضوان السيد”، يجب أن نستعدّ للزمن الصعب الذي يمكن أن يواجهنا، عدا عن التفاعلات الروسية في أفغانستان، والحرب الباردة جدّاً التي قد تصير ساخنة.
علينا أن نستعدّ وننطلق من كيفيّة تنفيذ اتفاق الطائف. يجب أن نحصِّن عقدنا الاجتماعي الوارد في الطائف، والذي يجب أن يعيش أكثر من خلال تحصين هذا الاتفاق
علينا أن نستعدّ وننطلق من كيفيّة تنفيذ اتفاق الطائف. يجب أن نحصِّن عقدنا الاجتماعي الوارد في الطائف، والذي يجب أن يعيش أكثر من خلال تحصين هذا الاتفاق. وأنا أرى أنّ ذلك ممكن من خلال تنفيذه حرفيّاً. لكن بعد هذه الفترة التي مرّت، حدثت عدّة أمور خلقت هواجس إضافية. وهي ليست هواجس عند المكوّنات الأقلّ عدداً، بل عند الأكثر عدداً، والمتساوية بمنحى الصراع بين هذه المكوّنات. والمكوّن الأقلّ عدداً هو بمنحى فقدان الهوية. والمكوّنات الأخرى بمنحى اصطدام الهويّة اللبنانية.
حتى نقارب هذا الموضوع يجب أن نعتمد الحياد. أنا لا أقول بالحياد عبر مؤتمر دولي، لأنّه لن يقدّم لنا شيئاً. إذا لم يتّفق بعضنا مع البعض الآخر على تحييد أنفسنا عن الصراعات الحقيقية وصراعات المحاور، فلن نصل إلى أيّ نتيجة. يجب أن نعمل على تأكيد حياد لبنان، وهذا أمر لا مفرّ منه نهائياً، وهو موجود منذ إنشاء لبنان. طبعاً تظهر القضية الفلسطينية. ربّ قائل: أف، كيف سنحيّد أنفسنا عن القضية الفلسطينية؟ لا أحد يقول ذلك. نحن نعرّض أنفسنا للقضية الفلسطينية من خلال المبادرة العربية للسلام. ومَن يرفض هذا الحلّ هو إسرائيل. إذاً نحن لا نعادي إسرائيل، بل على العكس، إسرائيل هي التي لا تريد الحلّ السلمي، حلّ الدولتيْن الذي يطرحه لبنان وفقاً للمبادرة العربية للسلام.
يجب أن نبدأ بالحياد. لنذهب مباشرة إلى إلغاء الطائفية السياسية. وهذه قضية مهمّة جداً في تطبيق اتفاق الطائف، لأنّ الهدف الأساسي في دستورنا ووثيقة الوفاق الوطني هو إلغاء الطائفية السياسية. في المقابل، نريد ضمانة، والحياد يضمن للجميع عدم تغيير الهويّة. أنا لا يهمّني أن يكون 70 في المئة من النواب من المسلمين أو يكون 40 في المئة من النواب شيعة، لم يعد يهمّني ذلك. إذا كان هناك حياد لبناني فلن أخاف من تغيير هويّة لبنان، والأمر كذلك بالنسبة إلى المسلمين كما إلى المسيحيين.
إنّ إقرار الحياد والاتفاق عليه وإدخاله في دستور لبنان هو ضمانة لكلّ الطوائف بعدم تغيير هويّة لبنان، والانطلاق فوراً إلى إلغاء الطائفية السياسية، وصولاً إلى المداورة بالرئاسات. قد تثير عبارة “المداورة بالرئاسات” خوفاً. أيّاً يكن، فإذا كانت صلاحياتي كرئيس مسيحي ليست ملائمة فلماذا لا أجرّب أن أكون رئيساً للوزراء. وإذا كانت الصلاحيات عند رئيس مجلس النواب، فدعني أكن رئيساً لمجلس النواب. يجب أن تطول المداورة، في رأيي، إمّا سلطة إجرائية للمسيحيين كرئاسة الوزراء أو رئاسة الجمهورية، وإمّا سلطة تشريعية، سواء مجلس الشيوخ أو المجلس النيابي، والأمر ذاته للمسلمين.
يجب أن نغوص في هذا الأمر أكثر لأنّ الأمور تتغيّر وكذلك المفاهيم. فالتطوّر العلمي والعولمة يجعلاننا نفكّر مليّاً في التعديل حتى نحافظ على اتفاق الطائف الذي يجب تطبيق روحيّته المماثلة لروحيّة الدستور التي هي حياد لبنان.
إقرأ أيضاً: بكركي هي الحلّ: الحياد والمؤتمر الدولي
مع التفلّت الذي حصل يجب أن لا نتكلّم عن حياد لبنان نظرياً. فلبنان ليس بلداً محايداً. وتبعيّته لمحور الممانعة جعلت الكارثة تتعاظم نتيجة هذه التبعيّة. هناك العزلة الاقتصادية، والاستثمار عندنا أصبح مرهوناً بتبعيّتنا لمحور الممانعة الذي له عداوات مع الحاضنة الطبيعية للبنان. أولادنا في السعودية والإمارات والكويت وفرنسا وأوروبا وأميركا، فيما نحن نسير مع إيران على الرغم من أنّه ليس عندنا مَن يستشفي في إيران، أو يتعلّم في إيران، أو يستثمر في إيران. لكنّنا سياسيّاً في إيران.
يجب أن ننطلق من الأساس. وهذا هو السبيل الوحيد إلى استكمال تطبيق اتفاق الطائف الذي أصبح دستوراً”.