مع بدء العدّ العكسيّ لإجراء الانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة (10/10/2021)، تأتي زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى العاصمة الإيرانية طهران، ليكون أوّل مسؤول أجنبيّ يزور إيران بعد تولّي إبراهيم رئيسي مقاليد السلطة التنفيذية في هذا البلد.
لم تحمل الملفّات والمواضيع، التي طرحها الكاظمي في لقاءاته مع المسؤولين الإيرانيين، جديداً على صعيد العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية والسياسية، إلا أنّ اللافت فيها أنّ رئيس الوزراء العراقي قدّم خطاباً لا يختلف في مفرداته عن خطاب أيّ من القيادات العراقية المحسوبة على المحور الإيراني أو تُتَّهم بولائها للنظام في طهران أو تعمل ضمن أجندة قوّة القدس التابعة لحرس الثورة الإسلامية.
يقترب خطاب الكاظمي من محاولة مصادرة خطاب الموالين للمحور الإيراني، أكان في ما يتعلّق بالعودة إلى تفعيل الوعود المعطّلة بحلّ كلّ المسائل العالقة بين البلدين على المستويات الاقتصادية والمالية والحدودية والتعاون التجاري والاقتصادي، أو في تأكيد نيّة العراق الجديّة لعب دور الوسيط في تخفيف التوتّر بين إيران وجوارها العربي، خصوصاً على المسار التفاوضي مع المملكة العربية السعودية. وقد يكون لهذه الزيارة دور وظيفي على الساحة الداخلية العراقية، في محاولة لرسم معادلات جديدة بينه وبين الجهة التي تؤثّر على قرار القوى المحسوبة عليها في العملية السياسية العراقية، واستخدامها في إطار الأهداف التي قد تخدم إمكان التجديد له في موقعه.
وعود الانتخابات
حجم الوعود التي قدّمها الكاظمي للجانب الإيراني، كبيرٌ جدّاً، ويشمل كلّ المسائل العالقة منذ عهود أسلافه في رئاسة الوزراء، من نوري المالكي، مروراً بحيدر العبادي، وصولاً إلى عادل عبدالمهدي: بدءاً من أزمة الديون السيادية بدل استجرار الكهرباء وشراء الغاز لتشغيل محطات توليد الطاقة، والبالغة نحو 6 مليارات دولار، إلى الربط السككي بين خرمشهر والبصرة، وتنظيف أو “كري” قاع مياه شطّ العرب (مصطلح عراقي يعني تنظيف قاع المنطقة البحرية المشتركة)، ورفع التبادل التجاري من 13 ملياراً إلى 30 ملياراً، إلى جانب الوعد بإلغاء التأشيرات. وهي وعود قد تدخل في إطار التأثير على المعادلات السياسية ما بعد الانتخابات.
وعلى الرغم من أهمّية المواضيع الثنائية التي وضعها الكاظمي على طاولة المباحثات مع الجانب الإيراني، إلا أنّها وعود أقلّ ما يقال فيها أنّها “نسيئة” (مصطلح فقهي يعني “بيع الدَّيْن بالدَّيْن”) طالما سمعها الإيرانيون من المسؤولين العراقيين بمختلف انتماءاتهم في السنوات الأخيرة، لا تُنفَّذ حتى لو نفّذت طهران التزاماتها. لذلك قد يكون من الصعب على طهران الذهاب إلى مواقف قد تؤسّس لالتزامات تتعلّق بالمعادلات السياسية ومستقبل رئاسة الوزراء. وقد برزت الحفاوة الإيرانية بالضيف العراقي من خلال استقبال رئيسي له في كسر واضح للبروتوكول الرسمي. إذ من المفترض أن يتولّى محمد مخبر النائب الأوّل لرئيس الجمهورية هذه المهمّة لكونه يوضع في منزلة رئيس الوزراء.
تتعامل طهران، وفي ظلّ الحكومة الجديدة، مع المتغيّرات بكثير من الحذر وعدم الثقة. وهي استراتيجيا مبنيّة على رؤية المرشد الأعلى للنظام
وإذا كانت جميع الأطراف العراقية والدولية تسلِّم بالدور الإيراني المؤثّر في المعادلات العراقية الداخلية، وتحديد اتجاهات الموقع الأوّل في السلطة بشكل مباشر، أو من خلال التوازنات التي تمسك بخيوطها عبر حلفائها من مختلف المكوّنات، فإنّ الكاظمي يدرك تماماً أنّ طريق العودة إلى ولاية أصيلة غير مؤقّتة أو انتقالية يمرّ من البوابة الإيرانية. وهي قناعة تأتي من واقع مربك تعيشه القوى السياسية التي تُعتبَر الحليف غير المعلَن له على طريق رئاسة الوزراء، لجهة عدم قدرتها على تحقيق نتائج مريحة تسمح لها بفرض إرادتها على القوى الأخرى. فضلاً عن أنّ الحليف “الصدري”، بزعامة مقتدى الصدر، قد يجد صعوبة في ترميم قاعدته الشعبية. وإن تمكّن من ذلك واستطاع الوصول إلى الهدف الذي وضعه بتحقيق الأغلبية المريحة فقد يذهب إلى خيار فكّ التحالفات لمصلحة مرشّح من داخله. من هنا يصبح الدور الإيراني مقرِّراً في الدفع باتجاه تشكيل الكتلة الكبرى التي تملك حقّ تسمية رئيس الوزراء. وهو ما قد يراهن عليه الكاظمي، في انتقاله إلى أن يكون خياراً إيرانيّاً يهبط على القوى الموالية أو القريبة من طهران.
عدم التزام إيران
من جهتها، اكتفت طهران، على الأقلّ من حيث ما هو معلَن من أجواء حول المباحثات مع الكاظمي، بتأكيد التزامها بأمن واستقرار العراق، وتعزيز العلاقات الثنائية، والانتقال بها إلى مستويات متقدّمة وأعمق على الصعيد الاستراتيجي، مع ما يفرضه ذلك من مساعدة العراق على إعادة بناء سيادته، والقضاء على الجماعات المسلّحة “الإرهابية”. إلا أنّها في المقابل لم تقلّل من أهميّة الدور الذي يمكن للعراق أن يلعبه على صعيد المنطقة وخفض التوتّر بين الدول المحيطة به، بما يؤسّس لدور جديد له في المعادلات الإقليمية.
من هنا يمكن أن يكون أحد رهانات الكاظمي في زيارته إلى طهران التي تأتي بعد أقلّ من خمسة عشر يوماً من قمّة دول الجوار التي استضافتها بغداد، محاولة تعويض ما لم تحقّقه هذه القمّة من النتائج أو الأهداف التي كان يرغب بها على صعيد كسر جدار القطيعة في العلاقات السياسية المباشرة بين المملكة العربية السعودية وإيران باعتبارهما لاعبين أساسيّين على الساحة الإقليمية، ولهما تأثير مباشر وفاعل في الوضع العراقي.
وكان الكاظمي قد كشف عن نيّته القيام بزيارة طهران ولقاء الرئيس الإيراني الجديد قبل نحو أسبوعين، إلا أنّ التوقيت الذي اختاره جاء متداخلاً مع التصعيد الأمني والسياسي المستجدّ بين الرياض وطهران، بعد استهداف جماعة الحوثي بالمسيَّرات المتفجّرة وبالصورايخ المنشآت النفطية والمدنية في منطقة أبها السعودية، والموقف الخليجي الموحّد بإدانة الدور الإيراني في اليمن، وعودة الموقف السعودي للحديث عن ضرورة التوصّل إلى اتّفاق جديد حول أنشطة إيران في المنطقة، إلى جانب إعادة إحياء الاتفاق النووي. لذلك كلّه أصبحت جهود ترميم هذه العلاقة متساوية في السلب والإيجاب، كما هي حظوظه في الحصول على ولاية جديدة.
قد يصف البعض الخطوات التي قام بها الكاظمي بأنّها نجاحات حقّقها على صعيد إعادة رسم دور العراق في المعادلات الإقليمية من خلال الدفع إلى إقامة حلف “الشرق الجديد” مع الأردن ومصر، وتحويله إلى أساس أو قاعدة لتحالف أكبر وأوسع يضمّ كلّ دول هذا الامتداد الجغرافي، ومن بينها سوريا ولبنان، وصولاً إلى أوروبا، أو من خلال نجاحه في جمع دول الجوار حول الطاولة العراقية. لكنّ الكاظمي يدرك أنّ ترجمة هذه الخطوات وتحويلها إلى إنجازات حقيقية قابلة للاستمرار والإنتاج قد تكون صعبةً من دون المشاركة الإيرانية الإيجابية، سواء مباشرةً أو من خلال حلفائها العراقيين، أو عبر الالتزام بشروطها الإقليمية التي قد تكون العلاقة مع سوريا واحدة منها. والرهان على قطف نتائج هذه الجهود مرتبط بتعاون إيراني في تسهيل عودته إلى رئاسة الوزراء.
إقرأ أيضاً: لماذا تريد إيران استبعاد الكاظمي؟
بدورها، تتعامل طهران، وفي ظلّ الحكومة الجديدة، مع المتغيّرات بكثير من الحذر وعدم الثقة. وهي استراتيجيا مبنيّة على رؤية المرشد الأعلى للنظام. لذا لن تخاطر في وضع كلّ أوراقها في يد طرف واحد، وستلجأ إلى تنويع قنوات تواصلها، مثل الكويت وسلطنة عمان، مع الخصوم الإقليميين والدوليين، من أجل تمرير الرسائل إلى الرياض والأوروبيين والمؤسسات الدولية والإدارة الأميركية، مستغلّةً ما تعتقده الحاجة الأميركية إلى حوار معها فرضها الانسحاب من أفغانستان والتطوّرات السياسية التي شهدتها الساحة اللبنانية.
هذا لا يعني الاستغناء عن الجهود العراقية أو التنكّر لها، بل الاحتفاظ بهذه القناة بالحدّ الأدنى من دون التزامات استراتيجيّة.