هو الرجل الذي قتل روبرت كينيدي، المرشّح للرئاسة الأميركية في عام 1968، لأنّه كان يريد زيادة دعم إسرائيل، بعد عام من “النكسة”، و20 عاماً من النكبة. وبعد 53 عاماً في السجن، ها هو يخرج حرّاً.
فمن هو هذا الرجل؟ وكيف قتل “رئيس” أميركا؟
سيرة سريعة
كتب الشاعر السوريّ القديم أرابيوس عبارةً جعلها نقشاً على قبره الموجود الآن في قرية أم قيس الأردنية.
تقول العبارة: “أيّها المارّ من هنا، كما أنتَ الآن كنتُ أنا، وكما أنا الآن ستكون، أنتَ متمتّع بالحياة لأنّك فانٍ”.
أنجز سرحان سرحان في حياته عملاً ضجّت الكرة الأرضية به، وانتشرت صوره على أغلفة المجلات العالمية كلها، لكنّه لم يكسب شيئاً البتّة وها هو الآن في السابعة والسبعين يبدو كأنّه وُلد خاسراً منذ البداية، وعاش أيّامه وهو يُخفي نشيجه المكتوم
لعلّ هذه العبارة تثير مشاعر متناقضة لدى سرحان بشارة سرحان الذي أصدرت هيئة مراجعة الأحكام الأميركيّة قراراً بإطلاقه يوم الجمعة في 27 آب 2021. فيما تثير فينا الميل إلى التأمّل في مصير هذا الإنسان، والسؤال: هل سرحان قادر حقّاً على التمتّع بما بقي له من عمر بعد 53 عاماً في السجن، وبعد خراب الروح وتغضّن الملامح وتكمّش الجسد؟
لقد أنجز سرحان سرحان في حياته عملاً ضجّت الكرة الأرضية به، وانتشرت صوره على أغلفة المجلات العالمية كلها، لكنّه لم يكسب شيئاً البتّة.
وها هو الآن في السابعة والسبعين يبدو كأنّه وُلد خاسراً منذ البداية، وعاش أيّامه وهو يُخفي نشيجه المكتوم.
مواليد النكبة
وُلد سرحان بشارة سرحان لعائلة مسيحية في 19 آذار 1944 في قرية الطيبة، وهي إحدى القرى المجاورة للقدس مثل لِفتا والمالحة ونيتّير.
مات شقيقه منير دهساً تحت عجلات سيارة عسكرية بريطانية في أثناء المواجهات بين الفلسطينيين والصهاينة في سنة 1947. ولاحقاً ولدت أمّه صبيّاً أطلقوا عليه اسم منير كي تبقى ذكرى الأوّل ماثلةً في حياة العائلة.
وشهد سرحان في طفولته المبكرة في القدس رجلاً يتطاير أشلاءً جرّاء سقوط قذيفة بالقرب منه، وظلّ هذا المشهد يطارده في أحلامه التي تحوّلت لسوء طالعه إلى كوابيس.
ولمّا هاجرت العائلة إلى الولايات المتحدة في عام 1957 بتسهيل من إحدى الكنائس المعمدانيّة، حيث واجه سرحان صدمة الغرب وتضعضُع الهويّة.
وفي حمّى القلق والتفاعل المضطرب مع المجتمع الأميركي والسياسات الأميركية، وجد في حركة “فتح” عن بُعد ملاذاً يمنحه شعوراً معيّناً بالانتماء. وقد غمرته العاصفة بعد معركة الكرامة في 21 آذار 1968 بوعودها النبيذيّة، وربّما أطلقت في عروقه نسغاً جديداً تغلغل في كيانه مثلما تغلغل في عروق جميع الفلسطينيين آنذاك، أكانوا في المخيّمات أم في المنافي البعيدة. وكان الوعد آنذاك بسيطاً ومُقنعاً في آن: الكرامة والحرّية والعودة حتى يكون للفلسطينيين وطن ويصبحوا شعباً لا مجرّد لاجئين.
لم يحتمل الكلام الذي قاله روبرت كينيدي، المرشّح المحتمل أن يفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية، وأعلن فيه استعداده لإرسال خمسين طائرة فانتوم إلى إسرائيل، التي كانت خارجة للتوّ مُنتصرةً في حرب الخامس من حزيران 1967. فعمد إلى سرقة مسدّس شقيقه منير الثاني، وانتقل إلى فندق “الأسادور” في مدينة لوس أنجلوس، حيث كان روبرت كينيدي يُلقي كلمة في مهرجان انتخابي للحزب الديموقراطي، وأدلى بصوته على طريقته: أطلق أربع رصاصات على كينيدي فأرداه.
بعد أقلّ من سنة، وبالتحديد في 7 نيسان 1969، حُكم بالإعدام ووُضِع في سجن “كوينتين”، وحمل الرقم 21014. ولمّا منعت ولاية كاليفورنيا عقوبة الإعدام في 8 آب 1970 خُفِّض الحكم إلى المؤبّد. ومنذ ذلك الحدث وهو قابع في زنزانة محروسة جيّداً من دون أيّ اتّصال بالعالم.
ولأنّه لا يحمل الجنسية الأميركية فسيُرحّل إلى الأردن، ثمّ إلى الضفة الغربية، إذا لم تعارض إسرائيل ذلك، وستُقام له الولائم هنا وهناك، وسيتبارى كثيرون في امتداحه غير عابئين بتلك الروح المعذّبة، وبذلك الجسد الواهن.
شهد سرحان في طفولته المبكرة في القدس رجلاً يتطاير أشلاءً جرّاء سقوط قذيفة بالقرب منه، وظلّ هذا المشهد يطارده في أحلامه التي تحوّلت لسوء طالعه إلى كوابيس
لماذا نسيه العرب؟
سرحان بشارة سرحان هو أقدم سجين فلسطيني في العالم، ومع ذلك نسيَه الجميع أو تناسوه، وأهالوا فوق اسمه أكواماً من التراب، فلم يجد في الزنازين التي عرفها أحداً يعتقد به، وعاش أيّامه وحيداً في خرائب الروح.
كتب عصام محفوظ مسرحية عنوانها: “لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستريو 71؟”. وأصدرت دائرة الإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1968 مُلصقاً عنه، وورد اسمه مراراً بين أسماء الأسرى الذين كانت منظمة “أيلول الأسود” تُطالب بإطلاقهم، ونُسِبت قصيدة محمود درويش: “سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا”، إلى سرحان بشارة سرحان. ومع ذلك لم تحاول منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية السعي الجدّيّ إلى إطلاقه، خلافاً لِما فعلته إسرائيل لعميلها جوناثان بولارد.
إقرأ أيضاً: “طوارئ” أميركا في لبنان: الوصاية الدّوليّة تتقدّم مُجدّداً؟
ومن غرائب الأحوال أنّ أرملة روبرت كينيدي (93 عاماً) عاشت لتشهد إطلاق مَن قتل زوجها قبل 53 عاماً. ونجلها دوغلاس فاجأ الإعلام بتأييده قرار إطلاق سراحه، استناداً إلى إعلان سرحان ندمه: “أعرّض نفسي للخطر مرة أخرى، وهذا عهدي لكم، سأبحث دائماً عن الأمان والسلام واللاعنف”. في حين رفض ستة آخرون من إخوته قرار العفو: “أثّرت وفاة والدنا على عائلتنا بطرق لا يمكن التعبير عنها بشكل كافٍ، وقرار اليوم من قبل مجلس الإفراج المشروط المكوّن من عضوين تسبّب بألم شديد”.
في هذا العمار الكونيّ ماذا يمكن أن يقول سرحان للشاعر أرابيوس؟