يعزّ علينا، نحن المدنيين الديموقراطيين المؤمنين بالدولة والدستور والمؤسسات، أن نذهب مذهبنا هذا، وأن لا نجد بدّاً من مطالبة الجيش بإحكام سيطرته على كل مفاصل البلاد. ونحن إذ ندرك أنّ هذا الخيار يشبه إطلاق النار على أقدامنا، نعرف أنّ الخيارات الأخرى باتت تتجاوز الخدوش الآنيّة إلى الإصابات القاتلة.
ماذا يمكن أن ننتظر بعد؟
لقد وقع الانهيار الكبير الذي طالما هربنا من وقوعه. ووصلنا إلى ما يشبه الاستعصاء السياسي والدستوري، على الرغم من كلّ المحاولات التي باءت جميعها بفشل ذريع، فيما أخذت الصورة تتوضّح أكثر فأكثر، إن لجهة رغبة رئيس الجمهورية وفريقه بعدم تشكيل حكومة جديدة من دون الإمساك برقبتها، أو لجهة سلوك المسار الاستراتيجي الذي رسمه حزب الله لتدمير ما بقي من الدولة ومؤسّساتها، وإرغام النخب على ترك البلاد، بعد تحويلها إلى مساحة موصوفة للاقتتال والتذابح على كلّ شيء، انطلاقاً من أبسط مقوّمات العيش الكريم، وصولاً إلى كلّ تفصيل من تفاصيل يوميّاتنا المتعِبة.
الرهان الدولي والإقليمي والداخلي على انتخابات نيابية ستقلب الطاولة وتغيِّر المعادلات، لا يعدو كونه هذياناً سياسياً، وانفصالاً كاملاً عن الواقع القائم، وعن التركيبة المعقّدة للمجتمع اللبناني ولمرجعيّاته السياسية والطائفية والمناطقية
أمس أطلّ القاضي السابق بيتر جرمانوس ليعلن بالصوت والصورة، وبالفم الملآن، أنّ ميشال عون والمجموعة اللصيقة به يسعون إلى عرقلة تشكيل حكومة جديدة، والإبقاء على حكومة تصريف الأعمال، وذلك بهدف إبقاء رئيس الجمهورية في موقعه بعد انتهاء ولايته. وكشف في حديث تلفزيوني عن دراسة دستورية وقانونية ساهم في إعدادها قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، تقول بإمكان بقاء رئيس الجمهورية في موقعه لتصريف أعمال الرئاسة في ظل حكومة مستقيلة، باعتبارها غير قادرة على تولّي صلاحياته، بحجّة ألا تذهب البلاد نحو “الفراغ الشامل”، وذلك بانتظار انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
لم يتأخّر الرئيس ميشال سليمان في تأكيد هذه الرواية، مشيراً إلى نصيحة تلقّاها قبيل انتهاء فترة ولايته، تتمحور حول تعقيد مسار تشكيل حكومة جديدة، والإبقاء على حكومة تصريف الأعمال المستقيلة، الأمر الذي يسمح له أن يبقى في منصبه.
هذه المعطيات تكتسب أهمّيتها الاستثنائية، ليس انطلاقاً من كونها تنطوي على معلومات جديدة أو غير معروفة، بل استناداً إلى توقيتها أوّلاً، بالتزامن مع الإصرار الممنهج على تعطيل تشكيل أيّ حكومة جديدة، وإلى شهادة شخصيّتين كانتا على تماس مباشر مع إجراء من هذا النوع. الأول عمل على إعداد التوليفة الدستورية والقانونية، وهو كان مقرّباً يومها إلى ميشال عون، والثاني نُصِح بتطبيقها، لكنّه لم يفعل.
هذا جانب بسيط من الصورة القائمة، وهو جانب يتعلّق برغبة واضحة في تعطيل البلاد بهدف الإطباق الكامل عليها وعلى مؤسساتها، تُضاف إليه محاولات حثيثة وواضحة لتوتير الأوضاع الطائفية والمذهبية، على خلفيّة الاشتباك حول الصلاحيات والمواقع، ناهيك طبعاً عن استعصاء سياسي وشعبي لتغيير هذا الواقع أو فرض واقع جديد، فيما الرهان الدولي والإقليمي والداخلي على انتخابات نيابية ستقلب الطاولة وتغيِّر المعادلات، لا يعدو كونه هذياناً سياسياً، وانفصالاً كاملاً عن الواقع القائم، وعن التركيبة المعقّدة للمجتمع اللبناني ولمرجعيّاته السياسية والطائفية والمناطقية.
ما هو الحلّ؟
لا حلول متاحة ضمن المسارات الطبيعية. الدستور واضح لجهة تشكيل الحكومات، وهي لن تُشكَّل ما لم تحصل على موافقة رئيس الجمهورية، وهو لن يوافق على حكومة لا يُمسك برقبتها وثلثها المعطِّل، وإلا فالإبقاء على حكومة مستقيلة والذهاب نحو تمديد قسري لولاية رئيس الجمهورية، تحت سقف فذلكة دستورية.
كذلك هي الحال مع الانتخابات النيابية، التي لن تُقدّم قيد أنملة أو تؤخّر، ولا سيّما في ظلّ القانون النافذ، وفي ظلّ استحالة الاتفاق على قانون جديد، وهذا يعني أنّ إجراءها لا يعدو كونه إعادة إحياء وتشريع للطبقة السياسية الحالية، مع فروقات طفيفة بين حجم هذا وذاك.
لا حلول متاحة ضمن المسارات الطبيعية. الدستور واضح لجهة تشكيل الحكومات، وهي لن تُشكَّل ما لم تحصل على موافقة رئيس الجمهورية، وهو لن يوافق على حكومة لا يُمسك برقبتها وثلثها المعطِّل
أمّا الثورة الشعبية التي انطلقت منذ عامين، فقد أثبتت عجزها عن الوصول إلى النتائج المرجوّة، ليس نتيجة ضعفها أو قلّة تنظيمها، كما يحلو للبعض أن يقول، بل نتيجة قوة النظام وتعقيداته وتجذّره وقدرته الرهيبة على المناورة وعلى قلب الطاولة، وقد بدا بعد أشهر قليلة من اشتعال جذوتها أنّها استحالت مساحة لتنفيس الغضب والاحتقان على سجيّة “فشّة” الخلق، لا أكثر من ذلك ولا أقلّ.
ماذا بقي من خيارات إزاء هذا الإقفال المستفزّ لكلّ المسالك المقبولة والمتاحة؟
لا شيء.
خصوصاً بعد تعذّر قيام جبهة وطنية عريضة، تأخذ على عاتقها مهمّة المواجهة السياسية المفتوحة، وذلك نتيجة الارتباك العام، وانشغال غالبية القوى السيادية بتحصيل فتات المصالح الشخصية والضيّقة، على حساب المصلحة الوطنية العليا.
يبقى الجيش. هل هو خيار صائب؟
قطعاً لا. وقد كان لأسلافنا الكبار رأي سديد في وجه سيطرة العسكر. لكنّ الكحل أفضل من العمى. فبين انهيار الدولة ومؤسساتها وعودة الأمور إلى ما كانت عليه، وبين مرحلة انتقالية تتولّاها المؤسسة العسكرية وفق ضوابط مقبولة، أجنح إلى إعلان حالة الطوارىء وإلى الإشراف على دعوة الضبّاط الأحرار في المرحلة المقبلة على تنظيم انتخابات شفّافة تؤسّس لبداية انتقال السلطة، ولحسن سير عمل المؤسسات، ولإعادة الروح إلى النظام الديموقراطي.
هذا سيصطدم قطعاً بحزب الله؟
لا بأس. لأجل هذه المهمّات وُجِدت الجيوش أساساً. وإلّا فما الحاجة إليها؟ هذا سمٌّ لا بدّ من تجرّعه. وهذه معركة لا بدّ من قيامها. لتكن حينذاك أمّ المعارك سياسية وأخلاقية وحتى عسكرية، وليكن الانقسام واضحاً بين عموم اللبنانيين التوّاقين إلى تغيير واقعهم، ومن خلفهم الكثرة الكاثرة في المنطقة والعالم، وبين ميليشيا مسلّحة تعتدي على مؤسسة شرعية، وعلى كرامة شعب برمّته.
إقرأ أيضاً: الطوائف تنفجر من الداخل.. والسنّة الخاسر الأكبر