النتائج التي خرجت بها قمّة “التعاون والشراكة” التي استضافتها بغداد في الثامن والعشرين من الشهر الماضي، يمكن قراءتها من خلال البيان الختامي الذي جاء خالياً من أيّ التزام من المشاركين بتقديم أيّ حلول لأزمات المنطقة غير ما جاء في البند الأخير عن التزام المشاركين بالتأسيس لـ”شراكات اقتصادية”. وهذا يؤكّد أنّ الإعداد لهذه القمّة لم يأخذ الوقت الكافي والضروري لترتيب جدول الأعمال والمواضيع التي من المفترض أن يكون لقادة هذه الدول مواقف واضحة منها، خصوصاً أنّ الهدف المعلن للحكومة العراقية من هذه القمّة هو العمل على تقريب وجهات النظر بين دول الجوار العراقي، والتوصّل إلى تفاهم يساعد العراق على استعادة أمنه واستقراره، ويبعده عن التحوّل إلى ساحة صراع وتصفية حسابات بين هذه الدول، فيكون محل التقاء كلّ المتناقضات الإقليمية والدولية، ويلعب دوراً وسيطاً يؤهّله لاستعادة دوره الفاعل على الساحتين الدولية والإقليمية.
يُسجَّل لقمّة بغداد، التي تنقّل عنوانها من مؤتمر “دول جوار العراق” إلى قمّة “دول الجوار الإقليمي”، واستقرّ في النهاية على عنوان مؤتمر “التعاون والشراكة”، أنّها نجحت في التنظيم وفي إقناع الكثير من الدول المعنيّة بالملفّ العراقي بالمشاركة، وفي توفير الزمان والمكان لعقد مجموعة لقاءات ثنائية بين قادة دول يسود التوتّر العلاقات بينها.
تؤكّد قمّة بغداد للمجتمع الدولي أنّ المدخل إلى حلّ الجزء الأكبر من أزمات المنطقة يكون بعودة العراق سيّداً وقوياً
وفي الآتي قراءة في أبرز النتائج التي يمكن البناء عليها:
1- مصر – قطر: اللقاء الذي جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير دولة قطر الأمير تميم بن حمد، والذي أسهم في نقل الاتصالات الجارية بين الطرفين إلى مستوى القيادات العليا، فساعد في تسريع إنهاء ملف الخلافات بينهما.
وإذا كانت القمّة أو التظاهرة السياسية، التي شهدتها بغداد، لم تنجح في تحقيق خرق كبير ومباشر في جدار العلاقة المتوتّرة بين الجانبين الإيراني والسعودي باعتبارهما، على الأقلّ، أبرز اللاعبين المعنيّين إقليميّاً بالساحة العراقية ومستقبل المنطقة بعد الانسحاب الأميركي المنتظَر، فإنّها، في المقابل، لم تستطِع كسر البرودة التي بدأت تتّضح في العلاقة بين السعودية ومصر نتيجة استبعاد الرياض للقاهرة عن الأجواء والاستعدادات التي انتهت إلى عقد أول لقاء بين الرياض وطهران على الأراضي العراقية في نيسان الماضي. ويفترض أنّ بعض الحرارة قد عادت إلى العلاقات المصرية – السعودية بعد الزيارة التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى شرم الشيخ، حيث التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي.
2- إيران – مصر: شهدت القمّة عودةً لبعض الحرارة بين طهران والقاهرة في اللقاء الذي جمع الرئيس السيسي إلى وزير الخارجية الإيراني الجديد حسين أمير عبد اللهيان. لقاء يمكن وضعه في إطار “وصل ما انقطع” بين الرئاسة والقيادة المصريّتين وبين النظام الإيراني في السنوات الماضية. خصوصاً في المراحل التي كان التيار المحافظ على رأس السلطة التنفيذية، سواء في عهد الرئيس حسني مبارك حين كان رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني مكلّفاً بمتابعة ملف هذه العلاقة، أو في المرحلة التي تولّى فيها الإخوان المسلمون السلطة في مصر، وتوتّرت العلاقة بين البلدين في عهد محمود أحمدي نجاد. وهي علاقة تقوم على سياق مختلف عن سياقات أيّ علاقة إيرانية عربية أخرى. إذ إنّ طهران تحرص وترغب في بناء علاقة مع القيادة المصرية في إطار استراتيجية تقوم على تنويع قنوات تواصلها مع العالم العربي من أجل قطع الطريق على وجود قطب واحد يمسك بالموقف منفرداً في وجهها. لهذا تريد إيران أن تعود مصر إلى لعب دور فاعل على الصعيد العربي يسمح بتعدّديّة الأقطاب، فضلاً عن الحاجة الإيرانية إلى الحفاظ على قناة مصرية للتواصل مع قطاع غزة والقوى الحليفة لها أو التي تعمل في إطار مشروعها الإقليمي، وهي حاجة ورغبة مشتركة بين الطرفين. فهذا التقارب بين البلدين يقلّل من المخاوف والقلق الإيرانيّين من الجهود المصرية للعودة إلى لعب دور فاعل على الساحة العراقية، سواء مباشرة أو من خلال تفعيل التحالف الثلاثي الذي يعمل عليه العراق منذ سنوات مع مصر والأردن، على المستويين الاقتصادي والسياسي، على أن يُنقَل إلى المستوى الاستراتيجي في إطار مشروع “الشرق الجديد”.
3- فرنسا مكان أميركا: مشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قمة بغداد، وعلى الرغم من أنّ الدولة الفرنسية لا تربطها بالعراق حدود مشتركة، ولا تُعدّ من دول الجوار العراقي، إلا أنّها حظيت باهتمام جميع الأطراف، خاصة الجانب الإيراني الذي قرأ في إصرار ماكرون على المشاركة سعياً فرنسياً إلى لعب دور البديل عن الطرف الأميركي بعد انسحابه من العراق. ولا سيّما أنّ ماكرون كان واضحاً في تحدّي الإرادة الإيرانية الساعية إلى إخراج جميع القوات الأجنبية من هذا البلد، بتأكيده بقاء القوات الفرنسية في هذا البلد بعد انسحاب القوات الأميركية.
وإذا كان ماكرون يؤسّس لشراكة اقتصادية مع العراق في قطاعيْ النفط والغاز وإعادة الإعمار، فإنّه حاول من خلال الاتصال المطوّل، الذي أجراه مع الرئيس الإيراني المنتخب إبراهيم رئيسي، الحصول من الجانب الإيراني على تعاون في ملفّيْ العراق ولبنان، بما يسمح له تأكيد دوره المستقبلي في المنطقة على قاعدة ملء الفراغ الذي سينتج عن تراجع الحضور الأميركي.
في المقابل شهدت القمّة توتّرات لا بدّ من الوقوف عندها:
كل طرف من الأطراف المشاركة حمل في جعبته مواقف تشكّل أساس رؤيته للساحة العراقية. وحاول كل طرف أن يرمي كرة أزمات العراق على الطرف المقابل.
1- المندوب السعودي هاجم الدور الإيراني المخرِّب من دون تسميته، وحمَّله مسؤولية ما يعانيه العراق من تحلّل أمنيّ وعدم استقرار سياسي نتيجة عمل القوى المحسوبة على طهران.
2- وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو كان واضحاً في تحميل العراق مسؤولية الأنشطة التي تقوم بها جماعة حزب العمال الكردستاني ضد المصالح التركية، من دون أن يتطرّق إلى وجود نحو 35 قاعدة عسكرية لبلاده داخل الأراضي العراقية.
3- الوزير الإيراني حاول نقل القمّة إلى مستوى آخر، مطالباً بإدانة الاحتلال الأميركي وتنفيذ قرار مجلس النواب العراقي بالانسحاب الكامل، وركّز على اغتيال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، منتقداً المواقف التي أدّت إلى امتناع الحكومة العراقية عن دعوة سوريا إلى المشاركة باعتبارها إحدى أهمّ وأبرز دول الجوار التي تؤثِّر وتتأثَّر بما يجري في العراق. واستكمل هذا الموقف بالانتقال مباشرة من بغداد إلى دمشق، حيث التقى الرئيس السوري كردّ عمليّ على عدم دعوته.
ما هي أرباح الكاظمي؟
في الخلاصة، قد تشكّل قمة بغداد انطلاقة جيدة للكاظمي في استكمال جهود إعادة إحياء دور بغداد الإقليمي والدولي الذي سبق أن بدأه رؤساء الوزراء السابقون، كلٌّ منهم على قدر ما سمحت له ظروف ولايته. وتساعد هذه القمة على إيصال رسالة عراقية بضرورة أن تعيد “دول الجوار” النظر في التعامل مع العراق كساحة صراع بديلة ومنصّة لإيصال الرسائل بينها. وتؤكّد القمّة للمجتمع الدولي أنّ المدخل إلى حلّ الجزء الأكبر من أزمات المنطقة يكون بعودة العراق سيّداً وقوياً. وهي أهداف يمكن أن تشكّل دفعاً قوياً للكاظمي في تكريس نفسه، إذا استطاع، شريكاً في العملية السياسية العراقية من خارج دوائر المحاصصة والتقاسم التي سادت عراق ما بعد العام 2003.
[VIDEO]