شكّلت خطبة المفتي دريان في صلاة الجمعة، في 27 آب 2021 بمسجد آل البساتنة، ميزاناً وطنيّاً انتصب وتساوت كفّتاه، بحيث يصبح ما فوقه ذهاباً في الخيال، ويصير ما تحته خضوعاً لطائفيّةٍ مقيتةٍ، وإسارٍ لا مخرج منه.
إنّه الميزان الذي حثّنا على نصبه في شهورٍ متطاولةٍ كلٌّ من البطريرك الراعي، ومطران بيروت الأرثوذكسي الياس عودة: نريد حكومةً جديدةً كلّف مجلس النواب الرئيس نجيب ميقاتي بتشكيلها بحسب وثيقة الوفاق الوطني والدستور، وهو مقتضى العيش المشترك، ومطلب المجتمعيْن العربي والدولي لمساعدة لبنان، واستنقاذه من الانهيار الذي أوصل إليه العهد العونيّ، وحصارات حزب السلاح.
سواء تشكّلت الحكومة أو لم تتشكّل، يبقى المطلب الرئيس: رحيل الرئيس أو ترحيله. بعد خطبة المفتي نحن ذاهبون إلى دار الفتوى، لمطالبة المسلمين المحترمين بأن لا يتنطَّح أحدٌ منهم، أعني من المعتبرين بشراً، للترشّح لرئاسة الحكومة في بقيّة عهد عون الميمون
في مقابلته مع “الحَدَث” مساء 27 آب نفسه، وعلى الرغم من تحفّظه الشديد، قال الرئيس ميقاتي كلمةً فاصلةً: “هناك فريق يريد العودة إلى ما قبل وثيقة الوفاق الوطني والطائف والدستور، وإنّما الخلاص في تطبيق الدستور، وليس في طموح العودة إلى ما قبله”. بل إنّ الخبير الدستوريّ البارز الدكتور حسن الرفاعي عرض في مقالته بصحيفة “النهار” في اليوم التالي، 28 آب، صورةً عن تشكيل الحكومات في تاريخ لبنان قبل الطائف، تختلف تماماً عن تصوّرات الرئيس عون وصحبه. فالرئيس عون وفريقه لا يريدون فقط إلغاء دستور الطائف الذي أجمع عليه اللبنانيون، بل يطمحون ويمارسون إلغاءً لتاريخ لبنان الحديث والمعاصر وتجربته السياسيّة. وهو سلوكٌ أقلّ ما يُقال فيه إنّه متعنِّت ويصيب أوّلَ ما يصيب المسيحيّين قبل سائر اللبنانيّين.
ولذلك استغربْتُ أشدّ الاستغراب سلوك بعض السياسيين والمعلّقين المسيحيين في وسائل الإعلام. إذ انصرف بعضهم إلى إسداء نصائح لأهل السُنّة بأن لا يكونوا طائفيّين، فيما يئس البعض الآخر من العملية كلّها باعتبارها صارت محاصصةً طائفيةً ولا شيء غير. وكلا الطرفين تجاهل الذي يجري والمقصود منه، وهو تشكيل حكومة، سلطة تنفيذية للبلاد يا ناس!
تعالوا ننظرْ في المسار العونيّ، وهو مسارٌ معاذ الله أن يكون طائفياً، فالطائفية على الرغم من الشتائم المقذعة بحقّها أسمى من ذلك بكثير:
– خلال الشهر الذي كان فيه ولا يزال الرئيس المكلَّف يصعد وينزل إلى القصر الجمهوري (شأن ما فعله سعد الحريري قبله) كان القاضي البيطار يسلك المسلك الشعبويّ الذي وجَّهه إليه القصر المسحور، فيُصدر مذكّرة جلب بحقّ رئيس الحكومة المستقيل باعتبار الاشتباه المؤكّد في أنّه في جريمة المرفأ قتل مئتين وعشرين مواطناً لبنانياً وغير لبناني عمداً. وهو اتّهامٌ لا يثير السخرية فقط، بل والفضيحة بحقّ القضاء اللبناني. وأنا لا أتحدّث هنا عن موقع حسّان دياب، ولا عن حقّ القاضي، ولا حتى عن الحصانات، والجهة التي يوجّه إليها الدستور في مثل هذه الحالة. بل أتحدّث عن المعقوليّة، معقوليّة القاضي، ومعقوليّة الاتّهام. وبالنظر إلى ذلك كلّه، أفليس من حقّ دياب، بل ومن حقّ المفتي (وهو قاضٍ سابق ويعرف في الصلاحيّات، وفي أصول المحاكمات)، أن يسأل نفسه ومستمعيه، بل وكهنة القصر، قبل سؤال القاضي، عن معقوليّة هذا الاتّهام، وعن الطريقة، وعن النوايا والسلوك؟
أُقدّر أنّ كهّان القصر طلبوا ذلك من القاضي، والقاضي سُرّ بالحصول على شعبيّة أهل الضحايا المساكين. فصار واجب جبران باسيل الحذر منه، فقد يخطر للقاضي الذي صار زعيماً شعبيّاً أن يترشّح لرئاسة الجمهورية فيكون منافساً له مثل قائد الجيش، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، وحاكم المصرف المركزي (القليل الشعبيّة على أيّ حال، أي أنّ حالته الحاضرة مثل حالة باسيل).
والرئيس، بمساءلة حسّان دياب حبيبه السابق وحبيب الحزب، قد جنى على نفسه، إذ لم يبقَ سنّيّ ولا شيعيّ إلاّ طالب باتّهام الرئيس، لأنّه عرف كما عرف حسّان دياب، وهو قائدٌ سابقٌ للجيش ويعرف معنى تخزين آلاف الأطنان من نيترات الأمونيوم بالمرفأ. وما تصرّف ولا تحرّك. وحسّان دياب على الأقلّ استقال بعد التفجير المهول، فماذا فعل الرئيس، وأين هي الشجاعة في تحمّل المسؤولية؟
نحن سائرون إلى هلاكٍ محتَّم، والمسيحيون يهاجرون قبل المسلمين، ومع ذلك يزعم الرئيس أنّه إنّما يطالب بحقوق المسيحيين، لأنّه يختصرهم بشخصه الكريم وبمستقبل صهره
جريمة عكّار
– لننتقل من جريمة المرفأ إلى جريمة التليل بعكار التي ذهب ضحيّتها أكثر من ثلاثين قتيلاً وعشرات المحروقين أنصاف الأحياء، ونصفهم من جنود الجيش. وقت جريمة المرفأ جمع الرئيس مجلس الدفاع الأعلى، حفظ الله جنرالاته من الأمونيوم وسائر السموم، وما أبدى رأياً، بل استمهل المواطنين خمسة أيام لتبيان الحقيقة التي لم تبِن بعد أكثر من عام (!). أمّا في حالة التليل فإنّ الرئيس وصهره أصدرا حكمهما فوراً: العكاكرة متشدّدون مجرمون وخارجون على الدولة، وينبغي إعلان عكار منطقة عسكرية.
وفي اليوم الثاني أو الثالث تبيّن أنّ أصحاب المخزن ومفجّريه هم من جماعة النائب العونيّ أسعد ضرغام، وقد دخل ثلاثةٌ منهم السجن. فهل اعتذر الرئيس القوي من أهل عكّار ضحايا التهافُت على البنزين مثل سائر اللبنانيين؟!
كلّ اللبنانيين (بالطبع ما عدا أنصارك) يتحوّلون إلى ضحايا بين قتيلٍ وجريحٍ ومهجَّر، فارحل يا صاحب الفخامة رحيلاً لا رجعة منه.
جريمة المرفأ، بحسب منطق القصر، ارتكبها مسلمون، منهم حسان دياب. أمّا جريمة عكار فارتكبها المتشدّدون الذين بلا أسماء. فيا أيّها المحلِّلون الأشاوس: المسلمون طائفيّون لأنّهم لا يقبلون الاتّهام بارتكاب جريمة بيروت الكبرى، ولا يقبلون اتّهام رئيس البلاد والعباد لهم بالتشدّد والإرهاب، مع أنّ كل الضحايا منهم (أي أنّهم قتل بعضهم بعضاً لأنّهم همج!)، وتريدوننا أن نقبل استمراره في الرئاسة إلى أن نهلك جميعاً!
لا لن نقبل ذلك، ولا بعمليات فحص الدم اختباراً للتشدّد والطائفية. استحوا يا ناس، لقد كنّا نأمل أن تنضمّوا إلينا جميعاً لا تضامُناً مع الكرامة والوطنيّة، بل للمطالبة بإزالة الرئيس الذي لن يترك هو وصهره في البلاد حجراً على حجر.
– بين هذا وذاك لا يزال الرئيس يجادل في نوعيّة دم هذا الوزير أو ذاك في الحكومة العتيدة، وكم وزيراً له، وكم وزيراً لصهره، ولماذا قال الرئيس المكلّف هذا أو ذاك، ولماذا يسأل عن صلاحيّاته الدستورية في تشكيل الحكومة التي يريد فخامته افتراسها من رأسها إلى ذنبها.
نحن سائرون إلى هلاكٍ محتَّم، والمسيحيون يهاجرون قبل المسلمين، ومع ذلك يزعم الرئيس أنّه إنّما يطالب بحقوق المسيحيين، لأنّه يختصرهم بشخصه الكريم وبمستقبل صهره.
والزميل زياد عيتاني يكتب عن “العامّيّة السنّيّة” تشبيهاً لثوراننا بعامّيّة أنطلياس في أربعينيات القرن التاسع عشر.
والزميل قاسم يوسف يكتب أن لا دولة بدون السُنّة.
والله لو أنّه نزل بالأرمن أو بالسريان أو بالإنجيليّين ما نزل بنا لَما صبروا ولا استكانوا. فكيف بنا وقد قامت إدارة الدولة وسياساتها الخارجية على أكتافنا وعقولنا خلال أكثر من ثمانين عاماً. وقد قُتِل مفتينا الأكبر وثلاثة من رؤساء الحكومة من أجل بقاء جمهورية لبنان وعيشه المشترك، وما قامت زعاماتنا على ميليشيا مسلَّحة، ولا على مشاركةٍ في الحروب الأهلية الطاحنة.
لكنّها على الرغم من ذلك كلّه ليست عامّيّةً يا أخ زياد، ولا تهديداً بإلغاء الدولة إن لم تصلح المشارَكة ويستقيم الدور يا أخ قاسم. العيش الوطني يتطلّب توازُناً. ومطلبنا مطلب اللبنانيين جميعاً: حكومة، سلطة تنفيذية أو إجرائية وسط الانهيار الشامل. كلّما دقّ الكوز بالجرّة، إمّا أن يُقتَل زعماؤنا أو تُحتلَّ مُدُنُنا، وإذا صرخنا قيل إنّكم طائفيون، أو إنّكم ضدّ مقاومة حسن نصر الله.
سواء تشكّلت الحكومة أو لم تتشكّل، يبقى المطلب الرئيس: رحيل الرئيس أو ترحيله.
بعد خطبة المفتي نحن ذاهبون إلى دار الفتوى، لمطالبة المسلمين المحترمين بأن لا يتنطَّح أحدٌ منهم، أعني من المعتبرين بشراً، للترشّح لرئاسة الحكومة في بقيّة عهد عون الميمون، ولمطالبة أنفسنا والوطنيين اللبنانيين بالإجماع على عزل عون بأيّ طريقٍ أو طريقة.
إقرأ أيضاً: عاميّة دار الفتوى: انتفاضة سنّة لبنان
أخيراً إذن وليس آخِراً، المطلب الإسلامي والوطني والإنساني: رحيل الرئيس أو ترحيله. ونقطة على السطر. ليست هذه عامّيّة غوغاء، لأنّ في بقائه خراباً لا حياة للوطن بعده. وليس المطلب إلغاءً للدولة، بل هو إحياءٌ واعتبارٌ لوثيقة الوفاق الوطني والدستور، إذ بهما تقوم الدولة التي يريدون تدميرها، ونحاول نحن مع سائر الوطنيين إنقاذها من أجل السلم الوطني، والعيش المشترك، والاستجابة لآمال المجتمعيْن العربي والدولي بلبنان والشعب اللبناني الحيّ والباقي بعد الرئيس وصهره.