حرب المحروقات: اللبنانيون يدفعون ثمن مواجهة عون لسلامة؟

مدة القراءة 6 د

التفاهم ما بين وزارة الطاقة ومصرف لبنان على بيع مخزون المحروقات الموجود في الأسواق على سعر صرف 3900، سيعالج مشكلة وقف البيع التام من قبل الشركات المستورِدة، التي نتجت عن التباين ما بين قرار وقف الدعم الصادر عن مصرف لبنان، وإصرار وزارة الطاقة على عدم إصدار جداول أسعار جديدة تواكب هذا القرار. لكنّ مفاعيل هذا القرار لن تتجاوز الثلاثة أيام كحدّ أقصى، قبل أن ينفد المخزون المتوفّر أساساً في السوق. عندها، سيُحال الطلب في السوق إلى المحروقات غير المدعومة، وفقاً لصيغة لم تتّضح تفاصيلها التقنيّة من جهة مصرف لبنان، ولا جداول أسعارها من جهة وزارة الطاقة، بانتظار التفاهم على الخطوات المقبلة بين الطرفين. أمّا في حال عدم تفاهم حاكم المصرف المركزي ووزير الطاقة ريمون غجر على ذلك، فمن المتوقّع أن تعود البلاد إلى نقطة الصفر، أي إلى نقطة وقف البيع التام من قبل الشركات المستورِدة.

ما زالت المنصّة تعمل حالياً ضمن هامش ضيّق جدّاً، بحجم تداول ضئيل، وبسعر صرف يقلّ عن سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء

لكلّ هذه الأسباب من المبكر الحديث اليوم عن أثر رفع الدعم على سعر صرف الدولار في السوق، أو حجم الارتفاع في سعر صفيحتيْ البنزين والمازوت الذي سيعتمد بدوره على سعر الصرف المعتمد للاستيراد. فكلّ هذه النتائج ستحدّدها عمليّاً التفاصيل التقنيّة التي سيعتمدها مصرف لبنان في تنفيذ القرار، وسعر الصرف المعتمد لذلك. أمّا دور وزارة الطاقة في هذه العمليّة، فمن المفترض أن ينحصر بإصدار جداول الأسعار لاحقاً بالتفاهم مع المصرف المركزي.

تستبعد مصادر مصرفيّة متابعة للملف أن ينسحب مصرف لبنان من آليّات بيع الدولار للمستوردين، وإحالة طلبهم على الدولار إلى السوق السوداء. فمن ناحية أولى، لا يوجد في السوق السوداء أي مرجعيّة رسميّة واضحة لتحديد سعر صرف الدولار بشكل شفّاف، فيمتنع تلقائيّاً تحديد جداول أسعار للمحروقات تتحرّك وفقاً لمعيار واضح. ومن ناحية أخرى، من شأن خطوة كهذه أن تلهب سعر صرف الدولار مقابل الليرة، بمجرّد زيادة الطلب على الدولار في السوق السوداء بكمّيات كبيرة دفعةً واحدة. وحاكم المصرف المركزي، وإن اعتبر أنّه غير معنيّ بتنظيم عمل الشركات المستوردة، إلا أنّه معنيّ حتماً بانتظام سوق القطع وسعر صرف الليرة اللبنانيّة.

لا يقدِّم البحث في تفاصيل بيان مصرف لبنان، الذي أعلن فيه وقف الدعم عن استيراد المحروقات، الكثير من التفاصيل، باستثناء تأكيده فتح الاعتمادات اللازمة المتعلّقة بالمحروقات باحتساب سعر الدولار على الليرة تبعاً لأسعار السوق. وبذلك أكّد بيان المصرف المركزي الحفاظ على دوره كمصدر للدولارات التي يحتاج إليها المستوردون لفتح الاعتمادات، ولو أنّه لم يحدّد سعر الصرف الذي سيعتمده ولا مصدر الدولارات التي ستُباع. وفي البيان نفسه، يحيل مصرف لبنان المستوردين إلى وزارة الطاقة التي يعود لها إصدار جداول الأسعار، مع أنّ المصرف المركزي يعلم مسبقاً أنّ إصدار هذه الجداول مستحيل دون التفاهم معه على طريقة بيع الدولارات وسعر الصرف المعتمد لذلك.

تستبعد مصادر مصرفيّة متابعة للملف أن ينسحب مصرف لبنان من آليّات بيع الدولار للمستوردين، وإحالة طلبهم على الدولار إلى السوق السوداء

فالبحث عن “سعر صرف السوق”، الذي يتحدّث عنه مصرف لبنان، والذي يمكن اعتماده لبيع الدولارات من قبله، من دون أن يستنزف الاحتياطات، ومن دون أن يحيل طلب المستوردين على الدولار إلى السوق السوداء، يقودنا إلى البحث عن منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة “صيرفة”، التي أُطلِقت لهذه الغاية بالذات.

ما زالت المنصّة تعمل حالياً ضمن هامش ضيّق جدّاً، بحجم تداول ضئيل، وبسعر صرف يقلّ عن سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء. ولهذا السبب، ما انفكّت تُعتبر “صيرفة” آليّة لبيع الدولار المدعوم، ولو وفق سعر صرف مرتفع قياساً بالأسعار المدعومة السابقة، يقوم من خلالها مصرف لبنان ببيع الدولار للمستوردين باتجاه واحد، ولا تمثِّل منصّة تداول فعلي في السوق بيعاً وشراءً. لذا لن يؤدّي اللجوء إليها اليوم بسعر صرفها الحالي إلى تحرير مصرف لبنان من استنزاف احتياطاته لتمويل استيراد المحروقات.

في هذه الحالة، سيكون بإمكان مصرف لبنان رفع سعر المنصّة تدريجيّاً ليساوي سعر صرف السوق السوداء، أو انتظار انخفاض سعر صرف السوق السوداء تدريجياً ليساوي سعر صرف المنصّة، وهو ما سيسمح عندها لمصرف لبنان باعتماد المنصّة لشراء الدولار اللازم لتمويل استيراد المحروقات من السوق، بعد توحيد سعر صرف المنصّة مع سعر صرف السوق الموازية. وعندها فقط، يمكن أن يتحرّر المصرف المركزي من فكرة استنزاف الاحتياطات لتمويل الاستيراد. وبانتظار ذلك، سيكون بإمكان مصرف لبنان التدخّل ضمن نطاق ضيّق جدّاً من خلال المنصّة عبر توفير الدولارات من احتياطاته لبيعها للمستوردين، وامتصاص أكبر كتلة ممكنة من الليرات لدفع سعر الصرف إلى الانخفاض، وتحقيق هذه المسألة. لكنّ ذلك لن يكون سوى مرحلة انتقاليّة ومؤقّتة، لكون هذه الآليّة ستستمرّ باستنزاف الاحتياطات المتبقّية في مصرف لبنان.

الاحتمال الآخر سيكون اعتماد المصرف المركزي على سعر صرف خاصّ وجديد لتمويل استيراد المحروقات، ولجوئه إلى سوق الصرّافين لشراء الدولار. لكنّ هذا البديل مستبعد حاليّاً لعدّة أسباب، أهمّها اتجاه مصرف لبنان إلى توحيد أسعار الصرف المتعدّدة خلال المرحلة المقبلة، لا خلق أسعار صرف إضافيّة، وعدم انسجام هذا الخيار مع توجّه المصرف لإطلاق عمل المنصّة كوسيلة تداول بالدولار في السوق بيعاً وشراءً.

إقرأ أيضاً: 3 أسباب وراء انخفاض الدولار

في كلّ الحالات سيكون على اللبنانيين انتظار تفاهم مصرف لبنان ووزارة الطاقة خلال الأيام القليلة المقبلة ليتبيّن بعدها اتجاه الأمور من ناحية سعر الصرف الذي سيتمّ على أساسه تسعير المحروقات. لكنّ الأكيد هو أن التشنّج القائم حاليّاً ما بين المصرف المركزي والحكومة لا يساهم في وضع خطّة متكاملة للخروج من مرحلة الدعم بأقلّ أضرار ممكنة، لا بل يمكن القول أيضاً إنّ هذا التشنّج الذي حكم علاقة الطرفين منذ نيل حكومة دياب الثقة، ساهم في عدم التمهيد لهذه المرحلة بأفضل طريقة. وفي الخلاصة: دفع جميع المقيمين في لبنان الثمن.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…