هو وزير الاقتصاد الأسبق في حكومة سعد الحريري، الذي وقف في واحدة من جلسات مجلس الوزراء وحذّر “حكومة العهد” الأولى من أنّ الانهيار آتٍ لا محال… لكنّ أحداً من الوزراء في ذلك الحين لم يصدّقه.
هو رائد خوري رئيس مجلس إدارة “سيدروس إنفست بنك”، الذي يقول في لقاء خاص، مع “أساس”: “إنّ هذه الطبقة السياسية لا أمل منها، ولبنان لن يبصر أيّ حلّ على يدها”، إذ يعتبر أنّ السياسيين معظمهم “غير كفوئين”، وغير قادرين على فعل أيّ شيء لأنّ الإصلاح “بحاجة إلى نمط تفكير وعقلية مختلفيْن” عن ذينك السائدين، وبعيدين كل البعد عن “الحرتقة” السياسية وعن الفساد والطائفية.
يؤكّد خوري أنّ لبنان “بات في مكان يحتاج إلى وزراء من صنف الـDoers” (الشغّيلة، أصحاب القرار باللغة الإنكليزية)، أي شخصيات “من قماشة كارلوس غصن وغيره، لديهم Track record ورؤية، يقدّرون قيمة الوقت ولا يهدرونه مثلما تفعل الطبقة السياسية الحالية”.
يرفض وزير الاقتصاد الأسبق أن يكون الفساد هو السبب الوحيد للأزمة فحسب، وإنّما يعتبر أنّ “سوء الإدارة” هو السبب الرئيسي الذي خلّف الفساد وخلّف سواه من الأزمات
في نظره، بدأ الانهيار عام 2011، والسبب في ذلك يعود أوّلاً إلى انحدار سعر برميل النفط، ثمّ إلى الحرب السورية التي أثّرت على لبنان في 3 عناوين: إقفال الحدود الذي قزّم حجم الصادرات، وأزمة اللاجئين الذين استفادوا من دعم الدولة مثل الشعب اللبناني، وتهريب السلع والمحروقات عبر الحدود… لكن على الرغم من ذلك كانت قوة المغتربين وحجم أموالهم التي ضُخّت في المصارف اللبنانية أقوى، فأخّرت شرارة الانفجار إلى عام 2019.
يرفض وزير الاقتصاد الأسبق أن يكون الفساد هو السبب الوحيد للأزمة فحسب، وإنّما يعتبر أنّ “سوء الإدارة” هو السبب الرئيسي الذي خلّف الفساد وخلّف سواه من الأزمات. وحينما سألناه عما يقصد تحديداً بسوء الإدارة، عاد خوري بالذاكرة إلى عام 1993، يوم كان همّ السلطة الأوحد هو “تثبيت سعر الصرف” على رقم 1507 ليرات لبنانية. يومها “قام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بواجبه وأنجز المطلوب منه، لكن أيضاً من 30 سنة إلى اليوم، كان يحرق دولاراته من أجل هذه المهمة، فاكتشفت الناس أنّ ما كان يحرقه هي دولارات المودعين!”. كان يمكن توفير هذه الأموال من خلال “تحفيز الاقتصاد الوطني بواسطة الاستثمارات الحقيقية وليس عبر سياسات إغراء الناس لجذب الودائع”، لأنّ الاقتصاد القوي والمنتج “يدعم دخول العملات الصعبة على شكل تصدير وبيع منتجات للخارج، وليس على شكل ودائع هي ليست ملكاً لنا أصلاً!”.
ثمّ يستطرد خوري بالقول إنّ سياسة “تثبيت سعر الصرف” لم تكن خاطئة بالكامل، خصوصاً في السنوات التي تلت انتهاء الحرب الأهلية، لكنّ استمرارها طوال هذه السنوات خلّف الكوارث. فبين بداية عام 2008 إلى نهاية عام 2010، دخلت أموال خيالية بسبب الأزمة العالمية، وبسبب ارتفاع أسعار النفط، وكذلك بعد خروج الجيش السوري من لبنان. حينها أُغدِق البترو – دولار على البلد، وكان يُمكن رفع سعر الصرف تدريجياً بكلّ سلاسة بسبب فائض العملة الصعبة، لكنّ ذلك للأسف لم يحصل.
ولهذا كلّه، فإنّ السلطة السياسية “تتحمّل مسؤولية حرق هذه الأموال”، وأيضاً المصرف المركزي “يتحمّل جزءاً من هذه المسؤولية”، لكنّ مسؤوليّته ليست بالقدر نفسه الذي يحمّله خوري إلى السلطة السياسية.
فالمركزي حينما لاحظ، في عام 2016، أنّ لبنان ذاهب إلى التأزّم، رفع نسبة الفوائد لاستقطاب الدولارات. “كان يعمل ضمن كلفة مرتفعة من أجل شراء الوقت، وكان يراهن على الإصلاحات، لكنّ السلطة السياسية خذلته ولم تقُم بالمطلوب منها”.
يشدّد خوري على أنّ رفع الفوائد أدّى إلى كارثة، لأنّه تسبّب برفع منسوب الاستهلاك لدى الناس، خصوصاً لدى الذين زادت مداخيلهم مع ارتفاع هذه الفوائد. “هؤلاء زادوا في استهلاك السلع وفي اقتناء السيارات وفي السفر، ولم تقابل السلطة السياسية المركزي برفع الضريبة على الاستيراد من أجل كبح هذا الاستهلاك. ولو قامت بذلك لكانت وفّرت على اللبنانيين الغرق، وأعفتهم من المأساة التي يعيشونها اليوم… وهذا ما يسمّى في علم الاقتصاد soft landing. فبدل أن نُفلس البلد فجأة، نتأقلم مع المتغيّرات من خلال رفع الضرائب ونحطّ بهدوء”.
وعن نوعيّة الودائع التي تبخّرت أو “حُرِقت”، حاول خوري التمييز بين كبار وصغار المودعين، فاعتبر أنّهم خسروا أموالهم على السواء، لكنّ الصغار عوّضوا بعضاً منها عبر الاستفادة من تثبيت سعر العملة والقدرة الشرائية العالية على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، وكذلك من خلال الاستفادة من الدعم غير المباشر.
يشدّد خوري على أنّ رفع الفوائد أدّى إلى كارثة، لأنّه تسبّب برفع منسوب الاستهلاك لدى الناس، خصوصاً لدى الذين زادت مداخيلهم مع ارتفاع هذه الفوائد
فتثبيت سعر الصرف الذي انتهجته الحكومات ووافقت عليه البرلمانات المتعاقبة، يشكّل ما نسبته نحو 80% من حجم الأزمة، إذ يذكر خوري أنّ العجز التجاري السنوي كان بحدود 15 مليار دولار، أيّ بعملية حسابية بسيطة كان العجز، في السنوات العشر الأخيرة، بحدود 150 مليار دولار.
وإضافة إلى هذه الـ70% أو الـ80% لتثبيت سعر الصرف، فإنّ 10% من الأزمة كان سببها العجز في ميزانية الدولة، الذي يمثّل ما معدّله 4 مليارات سنوياً، ويضاف إليهما السرقة والفساد، وهما بين 10% أو 15% من الأزمة، وربّما كان التعايش مع 5% من الفساد أمراً ممكناً .
أما وقد وقعت الواقعة، يرى خوري أنّ صندوق النقد الدولي “حتى يأخذ لبنان اليوم على محمل الجدّ”، فإنّ السلطة مطالبة بإثبات تبنّيها لـ”نموذج اقتصادي” جدّي وجديد ومتحضّر يساعدنا على تخفيف القيود والمطالب التي قد يطالب بها الصندوق، “فربّما يغضّ الطرف حينها عن مطالب قد يكون تنفيذها كارثياً”، مثل ترشيق القطاع العام وتخفيض عدد الموظفين وخلافه…
يُعبّر خوري عن أسفه على سلوك الطبقة السياسية، ويقول “لو بدأنا بوضع الحلول مع اندلاع الأزمة، لكنّا بحاجة إلى 7 سنوات من أجل إعادة الاقتصاد اللبناني إلى ما كان عليه سابقاً، لكن بعد التأخير الذي طرأ منذ 17 تشرين الأول 2019 إلى اليوم، ونفاد 20 مليار دولار من الاحتياط، بتنا بحاجة إلى نحو 17 سنة للوصول إلى برّ الأمان”.
يتقاطع كلامه هذا مع تقديرات البنك الدولي التي ترى أنّ الحل بحاجة إلى ما بين 12 و19 سنة، إذا باشرنا بإجراء الإصلاحات اليوم، فيما التأخير الإضافي في نظر خوري (إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة مثلاً) قد يمدّد الفترة إلى نحو 20 سنة.
وعليه، يكشف أنّ الـHaircut اليوم هو بحدود 83% (الشيكات المصرفية يُدفع من قيمتها 17%)، فيما كان مع بدايات الأزمة بنحو 30%. والآن كلّما تأخّرنا بات “الخروج من الحفرة” شبه مستحيل، لأنّ عامل الوقت هو الأهمّ، لكنّ الطبقة السياسية لا تقيم للوقت أيّ وزن.
وأولى الخطوات، في نظر خوري، هي البدء بـ”امتصاص الخسارة” من خلال “توزيع المسؤوليات على الجهات المشاركة”، وذلك وفق تصنيف: “الأكثر مسؤولية والأكثر استفادة”.
ولهذا، فإنّ 60% من المسؤولية تقع على عاتق الدولة، و20% يتحمّلها مصرف لبنان لأنّه كان المسهِّل لهذه الكارثة، ومهّد الطريق أمام السلطة.
أمّا المصارف الكبرى (أول 3 مصارف كبرى) فلها حصة 15% لأنّها هي التي كانت تضع الـTrend، والجميع يسير خلفها. فعلى الرغم من اعتراضها في مرحلة من المراحل على الاستمرار بتسليف الدولة الأموال، إلاّ أنّها لاحقاً، وبحجّة الترهيب والترغيب، عادت هذه المصارف إلى لعبة تسليف الدولة، ثمّ اضطرّت المصارف الصغيرة إلى السير خلفها، تحت ضغوط خسارة المودعين لمصلحة الحيتان الكبرى.
في نظر خوري فإنّ “لعبة تثبيت سعر العملة كانت بحاجة إلى دولارات، ولجلب الدولار كانت المصارف بحاجة إلى المودعين، ولجلب المودعين كانت المصارف بحاجة إلى رفع الفوائد… وهكذا دواليك”.
60 % من المسؤولية تقع على عاتق الدولة، و20% يتحمّلها مصرف لبنان لأنّه كان المسهِّل لهذه الكارثة، ومهّد الطريق أمام السلطة
أمّا الـ5% المتبقّية من المسؤولية فتقع على المودعين الكبار أنفسهم، الذين “يُفترض بهم أن يعلموا حجم المخاطر، لكنّهم أصرّوا على ضخّ الأموال في القطاع المصرفي، وها هم يدفعون الثمن اليوم”، فما من صاحب مال لا يعلم أنّ “ارتفاع نسب الفائدة يعني ارتفاع المخاطر”.
وفي الحديث عن الهندسات المالية، سألنا خوري عن الكلام الذي يتّهم “سيدروس بنك” بالاستفادة منها، فلم ينفِ، لكنّه قال إنّه كان أوّل مَن حذّر من قرب الكارثة، وكان من الطبيعي ألاّ يوظّف أموال المصرف مع الدولة بين عاميْ 2016 و2017، “لكنّ هذه السياسة كادت أن تُفقد المصرف زبائنه بسبب حجم الفائدة المتدنّية التي يقدّمها لعملائه، على الرغم من تأكيدنا لهم أنّ مصرفنا آمن. ولو لم نخضع للهندسات المالية لكان المصرف واجه الإفلاس، لأنّ المصارف الصغيرة هي من بين الـFollowers، وكانت مضطرّة إلى أن تلحق بالتراند الذي ترسمه المصارف الكبرى من أجل البقاء في السوق”.
وعن رؤيته للحلّ، يؤكد خوري أنّ الحل كان يجب أن يُعتمد مباشرة بعد 17 تشرين بفرض “هيركات” بنسبة 20% أو 30% من خلال إنشاء محفظة توضع فيها ممتلكات الدولة اللبنانية (Assets) وتُدار بواسطة مجلس، مهمّته أن يدير الاستثمارات، وأن يوزّع الأسهم بنسبة 30% أو 40%، ثم يجمّد الـ30% الأخرى، ويبدأ دفعها بعد 5 سنوات.
أمّا اليوم فالحلّ يبقى نفسه لكن بنِسَب متغيّرة بسبب التأخير، إذ يمكن أن يهبط من 85% كما هو الحال الآن إلى 50% أو 60%. أمّا إذا تأخّر الحلّ أكثر، نحو 6 شهور مثلاً، فإنّ النسب ستتغيّر طبعاً، “ولا أستبعد أن تتبخّر الأموال كلّها إذا أمعنّا في إهدار الوقت… فانظر إلى أهمية الوقت في هذه الخطط”.
إقرأ أيضاً: انهيار لبنان الكارثيّ.. بالأرقام
الخطوة الثانية تكون بالتوجّه إلى صندوق النقد بموازاة ما سبق ذكره، حيث ندخل في مفاوضات معه من أجل وضعه في صورة الخطة والنموذج الجديد.
والخطوة الثالثة هي الحل السياسي، الذي يتعلّق بـ”فكّ عزلة لبنان”، ويأتي من خلال المصالحة مع الغرب والدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. وهي الخطوة التي ستتوّج العمل الاقتصادي التقني.