يلاحظ سياسي عربي متابع لـ”السيرك السياسي” اللبناني، أنّ كافة اللاعبين يستعملون أزمة تشكيل الحكومة الحالية لتسجيل مواقف ونقاط ولتجميع ذخيرة لاستخدامها في الأزمات المقبلة. لا أحد، واقعياً، يشتبك على قاعدة إيجاد الحلّ. فالجميع يتصرّفون على أنّ المشكل مستمرّ ومادة استثمار لمشاكل مقبلة، في معركة رئاسة الجمهورية المقبلة وفي الانتخابات النيابية وقانونها وفي رئاسة المجلس النيابي بعدها…
إن أحسن المرء الظنّ يمكن تحييد الرئيس سعد الحريري، للمرّة الأولى منذ التسوية الرئاسية، عن سلوك الإمعان في التخريب الذي شارك الجميع فيه فساداً وتحاصصاً. فهو يبدو من خلال ما قدّمه من تشكيلة حكومية لرئيس الجمهورية، مقنعاً في رغبته أن يكون مدخلاً للحلّ وفق المبادرة الفرنسية واشتراطات المجتمع الدولي قبل مؤتمر سيدر وبعده.
ما عدا ذلك، من الواضح أّن الضغط الهائل الذي مارسه الشارع على “تحالف المافيا والميليشا”، معطوفاً على الضغط الدولي التشهيري عبر العقوبات، أوقع مكوّنات التحالف في اشتباك بيني بالغ الشراسة والشفافية في آن.
فالحاصل يشبه الاشتباك بين بنات الهوى في السوق العمومي: كلهنّ على حقّ في ما يقلنَ، لأنّ كلهنّ يعرفنَ كلهنّ!
رئيس الجمهورية ميشال عون يريد تغطية سموات الفساد التي فضحت صهره ووريثه وولي عهده، “بأبوات” التحايل على القانون لفتح معارك فساد مقابلة. فخلافاً للقانون والتفويض الدستوري لها، تقدّمت هيئة القضايا في وزارة العدل بشكوى أمام النيابة العامة التمييزية ضدّ مدير عام وزارة المهجرين و16 موظفاً آخر بجرم الإثراء غير المشروع، بالاستناد إلى تصريح هؤلاء عن ممتلكاتهم حديثاً، سنداً لقانون الإثراء غير المشروع. إنّها معركة مع وليد جنبلاط، لم تفت نوابه الذين ردّوا بأنّ الفساد في وزارة الطاقة التي كانت بعهدة صهر الرئيس، أو أي من معاونيه وأزلامه، هو المدخل المضيء لمكافحة الفساد!!
إن أحسن المرء الظنّ يمكن تحييد الرئيس سعد الحريري، للمرّة الأولى منذ التسوية الرئاسية، عن سلوك الإمعان في التخريب الذي شارك الجميع فيه فساداً وتحاصصاً
وفي سياق “الأبوات” نفسها التي يُراد بها تغطية السماوات، استدعت القاضية غادة عون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للمثول أمامها بعد تحقيق القاضية مع عدد من الصرّافين، أبرزهم نقيبهم محمود مراد، بشأن كيفية توزيع الدولارات المخصصة لشراء السلع «المدعومة»، وآلية الرقابة التي يُفترض أن يوفرها مصرف لبنان للتثبّت ممّا إذا كانت هذه الدولارات تُصرَف فعلاً على استيراد السلع المدعومة.
وتشتبه القاضية بأنّ هذه الدولارات استُخدمت في غير وجهتها، وأنّ جزءاً منها يُوظّف في لعبة المضاربة على سعر الصرف.
أما أم المعارك فجاءت عبر قرار المحقّق العدلي القاضي فادي صوان، الذي يُعتقد على نطاق واسع أنّه يميل إلى الرئيس عون، وفيه اتّهم رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب و3 وزراء سابقين، هم على حسن خليل، غازي زعيتر و يوسف فينيانوس، بالإهمال فيما يتعلق بانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. وخليل هو ذراع الرئيس نبيه برّي الأولى ومعاونه السياسي الأقرب، وأما زعيتر فهو ذراع برّي الأولى في البقاع، في حين أن فينيانوس هو المعاون السياسي لخصم عون الرئاسي الوزير سليمان فرنجية.
في المحصلة التفّ حزب الله حول برّي طاعناً في الاتهام المسيّس الصادر عن صوان، وزار الحريري رئاسة الحكومة طاوياً خلافه مع رئيس حكومة حزب الله الثانية، حسان دياب، لصالح الدفاع عن كرامة ومقام رئاسة الوزراء. أما الوزير فرنجية فخيره سابق في “شرشحة” جبران باسيل وعمّه في مؤتمر صحافي شهير قال فيه أكثر مما قاله مالك في الخمر.
كان النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي زياد أبو حيدر افتتح مسلسل الادعاء بموجب قانون الإثراء غير المشروع الجديد الذي أقرّه البرلمان في أيلول الفائت، بالادّعاء على قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي وسبعة ضبّاط كبار آخرين، قالت التقارير الإعلامية إنّهم المدير السابق لمكتب قهوجي العميد المتقاعد محمد جعفر الحسيني، إضافة إلى اللواء المتقاعد عبد الرحمن شحيتلي، ومدير المخابرات السابق العميد كميل ضاهر، ومدير المخابرات الأسبق العميد إدمون فاضل، ومدير مخابرات بيروت السابق العميد المتقاعد جورج خميس، ومدير مخابرات الشمال السابق العميد المتقاعد عامر الحسن والمقدّم المتقاعد في الأمن العام أحمد الجمل.
في المحصلة التفّ حزب الله حول برّي طاعناً في الاتهام المسيّس الصادر عن صوان، وزار الحريري رئاسة الحكومة طاوياً خلافه مع رئيس حكومة حزب الله الثانية، حسان دياب، لصالح الدفاع عن كرامة ومقام رئاسة الوزراء. أما الوزير فرنجية فخيره سابق في “شرشحة” جبران باسيل وعمّه
لم يتّسع مشهد التراشق بالفساد في تاريخ الجمهورية بمثل اتّساع رقعته اليوم. وهو تراشق يفضح مستوى العجز والرعب الذي بات يصيب منظومة “المافيا والميليشيا”، كما يقدم الدليل العملي الملموس على حقيقتها.
فكيف يمكن للفساد أن يشمل كل هذه القوى السياسية وكبار الموظفين في الوزارات الحيوية وأجهزة الأمن والجيش ما لم يكن الفساد هو النظام السياسي نفسه.. فنحن لا نتحدث عن فاسدين داخل النظام، بل عن فاسدين على اتّساع كلّ خطوط الطول والعرض لخارطة النظام ويشكلون النظام نفسه. بهذا المعنى الفساد هو العقد الإجتماعي الحقيقي في لبنان بين رؤساء الطوائف وطبقة زبائن عريضة تبدأ من كبار الموظفين ورجال الأعمال، وتنتهي بصغار الكسبة في كامل أجهزة الدولة وبعض القطاع الخاصّ الاحتكاري المتحالف مع السلطة السياسية.
الفاسد هو النظام. والفساد هو العقد الاجتماعي. وهذا تحديداً ما يتعرّض لانهيار مريع في الشارع بحيث أنّ “ثورة 17 تشرين” وجمهورها الشبابي تحديداً يبدو غير معني تماماً بالتراشق بالفاسد الذي يمارسه أطراف المافيا والميليشيا ضدّ بعضهم البعض. ما يعني هذه الشريحة من الناس، هو أنّ معركة التراشق تؤكد لها أحقية موقفها التشهيري بكامل الطبقة السياسية، وتعزّز من حماستها ومن استعدادها للعدوان عليها في المكان العام، على ما يحصل مع سياسيين وكبار الموظفين وزوجاتهم، ويوثّقه الناشطون بفيديوهات مهينة سرعان ما تصير هي الخبر اليقين.
تقوم فكرة العقد الإجتماعي، وفق رؤية جان جاك روسو، على معادلة بسيطة مفادها التخلّي الجمعي الطوعي عن بعض الحريات الفطرية والطبيعية للبشر، في مقابل قيام دولة المساواة الضامنة لأمن الجميع وحقوق الجميع، بما فيها الحريات المدنية المتوافق عليها في الدستور. يفترض بالعقد الإجتماعي أن يتيح هذه الدولة بالتحديد، التي تديرها سلطات سياسية تكتسب شرعيتها من الإنتخاب. عدا ذلك تفقد الانتخابات قدرتها على شرعنة السلطة السياسية وتتحوّل إلى آلية لتأبيد اللامساواة بين الناس وتفتح المجال أمام الانتفاض على الدولة بصرف النظر عن الصفات التمثيلية للقوّة الغاصبة.
لم يتّسع مشهد التراشق بالفساد في تاريخ الجمهورية بمثل اتّساع رقعته اليوم. وهو تراشق يفضح مستوى العجز والرعب الذي بات يصيب منظومة “المافيا والميليشيا”، كما يقدم الدليل العملي الملموس على حقيقتها
في لبنان نحن عند هذه النقطة تماماً، بحيث أن أيّ انتخابات هي فاقدة للشرعية سلفاً، إذا ما أعادت إنتاج الطبقة السياسية نفسها، أو الجزء الأكبر منها، مستفيدةً من علاقات القوّة التي لا يزال يتيحها لها تحكّمها بمفاصل رئيسية داخل النظام السياسي.
إقرأ أيضاً: مسلسل المهانة “لنظام الحزب”.. العرض مستمرّ
وفي ظل امتناع الإجراءات القسرية الكافية (كإعلان لبنان دولة فاشلة ووضعه تحت وصاية أممية وفق الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة) التي تخرج مكوّنات “نظام المافيا والميليشيا” من دائرة الحقّ المدني بممارسة السياسة، سيتدرّج لبنان أكثر وأكثر من مثاليات جان جاك روسو عن العقد الاجتماعي ودولة المساواة، إلى واقعية توماس هوبز عن “حرب الجميع ضد الجميع” في غياب الدولة!
يبقى أنّه من حسنات الانهيار الإقتصادي الحاصل والمرشّح إلى مزيد من التعمّق، أنّ “نظام المافيا والميليشيا” يفقد قدرته على التحكم ورعاية المنظومة الزبائنية وتأبيد الرقعة الاجتماعية التي تعيد إنتاج شرعيته السياسية في كل انتخابات. فما عاد التوظيف في القطاع العام يغري بالتبعية ولا عاد الاستئثار بالنشاط الاقتصادي يغري القطاع الخاصّ بالتواطؤ. لكنّه انهيار بطيء ومضنٍ وذو نتائج مدمّرة طويلة الأمد.
أما الطلقة الأخيرة بين أركان المنظومة فهي حرب الهويات السخيفة.
ديكٌ على مزبلة حقوق المسيحيين.. وديكٌ على مزبلة مقام رئاسة الحكومة.. وديكٌ على مزبلة حقوق بني معروف.. وديكٌ على مزبلة المظلومية الشيعية.. والكلُّ يصيح في الهباء!