للسياسة فنونها. ظروفها وحاجتها تقتضي غالباً أن يكون رجل السياسة بهلواناً بالمعنى العميق للكلمة. المقصود هنا، حاجة السياسيّ إلى القفز بين الألغام والمواقف للوصول بمن يسوسهم إلى شاطئ آمن، وتوفير الحدّ الأدنى من المكتسبات التي يرتجونها.
الدعم العربي غير موجود، ولا بدّ من قراءة ما بين سطور تغريدات السفير السعودي وليد البخاري. وعليه، لا تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر، نظراً إلى الظروف الخارجية والأسباب الداخلية
في مجتمعات كمجتمعاتنا، تنقسم مهمّة السياسي إلى قسمين:
– الأول هو الاهتمام بشؤون البلاد وفق مرتكزات الدولة ومؤسّساتها، بشكل يحرص فيه على حماية حقوق المواطنين ومكتسباتهم ضمن عمل المؤسسات وتحت سقف الموجبات والحقوق.
– والثاني هو انطلاق كلّ رجل سياسي من بيئة اجتماعية مذهبية وطائفية تتوقّع منه أن يمثّلها ويحرص على حماية مكتسباتها وتعزيز وضعيّتها. وهنا يكون اهتمامه متركّزاً على الوضع الشعبي داخل بيئته، سواء كان ذلك لحسابات انتخابية أم غيرها. إلا أنّ الهمّ أو الاهتمام الأساسي فيها لا بدّ أن ينطلق من تعزيز موقع هذه الجماعة بغضّ النظر عن الحسابات الضيّقة، وعمّن يكون مؤيّداً له أم معارضاً.
ما بين القسمين تتكوّن بهلوانية رجل السياسة في مجتمعات تشبه ما نحن عليه، ليوازن في مواقفه بين متناقضات متعدّدة، يفرضها عليه الأمر الواقع. ومَن لا يعي ذلك فلا بدّ له أن يذهب إلى الانتحار، سواء تقدّم في مشروعه الضيّق أو المصلحي أو الشخصي أو المذهبي أو الطائفي، أم ذهب إلى التسليم بكلّ شيء كرمى لعيون الآخرين ونزولاً عند رغبات “القدرة التعطيليّة” للأطراف الأخرى طمعاً في مكسب أو منصب أو من أجل البقاء في السلطة كما فع سعد الحريري. الخيط رفيع جدّاً هنا، ويحتاج إلى ميزان جوهرجي. ومن هنا يأتي تعبير “البهلوان” للتشبيه. فهو الوحيد الذي يتمكّن من القفز والسير والرقص فوق ذلك الخيط الرفيع محافظاً على توازنه كي لا يسقط.
لماذا هذا الكلام؟
على مدى 9 أشهر، كان الرئيس نجيب ميقاتي داعماً للرئيس سعد الحريري، ووقف إلى جانبه في كلّ مواقفه، داعياً إيّاه إلى عدم التنازل لمطالب رئيس الجمهورية ولرئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، واستمرّ بدعوته إلى عدم الاعتذار، بل البقاء مكلّفاً حفاظاً على الدستور، وصلاحيّات الرئيس المكلّف تشكيل حكومة، ورمزيّة الموقع. تحذيرات كان يوجّهها ميقاتي إلى الحريري، لكنّه عاد وأوقع نفسه فيها. فما إن قَبِل تكليفه، حتّى وضع نفسه بين خيارين: إمّا التنازل ليتمكّن من تشكيل حكومته، وإمّا الاعتذار. وهما موقفان أطال في تحذيراته من اللجوء إليهما والوقوع فيهما.
عشيّة تكليفه، قال ميقاتي، خلال تواصله مع بعض القوى، إنّه إذا نجح في تشكيل حكومة، فسيكون بطلاً وطنياً، أمّا إذا فشل واعتذر، فسيكون بطلاً سنّيّاً
الوقوع في هذا الفخّ، أو الركون إلى احتمال من الاحتمالين، سيكون لهما ارتدادات سلبيّة على موقع رئاسة الحكومة، وعلى البيئة التي ينطلق منها ميقاتي لقبول التكليف، أو بعد فرض تكليفه. فلو نجح في تشكيل حكومة نتيجة تقديم تنازلات، سيكون قد حقّق فوزاً شخصياً على حساب الدور والموقع والطائفة، وسيؤدّي ذلك إلى شرخ بينه وبين رؤساء الحكومة السابقين. أمّا إذا اعتذر، فستكون الأرباح جماعية له ولبيئته السياسية والاجتماعية ولرمزية الموقع ودوره.
بُعيد تكليفه، تجلّت حماسة ميقاتي سعياً وراء تشكيل حكومة، وأعلن وجود دعم إقليمي ودولي لمسيرته. وبعد تسريبات عن توافر مقوّمات الدعم الأميركي له، عاد ونفى ذلك بنفسه في مقابلة على شبكة “بلومبرغ”، إذ قال: “أنا واثق من أنّ الولايات المتحدة ستكون منفتحة على الدعم أيضاً”. وهذا يعني أنّها ليست داعمة. وبحسب المعطيات، فإنّ الموقف الأميركي يتّضح أكثر فأكثر لجهة عدم اهتمامه بالتفاصيل اللبنانية اليومية. أمّا الدعم العربي فغير موجود، ولا بدّ من قراءة ما بين سطور تغريدات السفير السعودي وليد البخاري. وعليه، لا تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر، نظراً إلى الظروف الخارجية والأسباب الداخلية المستمرّة في إعاقة تشكيل حكومة، وفي تجميد كلّ ما له علاقة بالسياسة في لبنان.
إقرأ أيضاً: إعتذر يا دولة الرئيس!
عشيّة تكليفه، قال ميقاتي، خلال تواصله مع بعض القوى، إنّه إذا نجح في تشكيل حكومة، فسيكون بطلاً وطنياً، أمّا إذا فشل واعتذر، فسيكون بطلاً سنّيّاً. أحد الأقطاب، الذي سمع منه هذه المعادلة، أرسل إليه بالقول: “نحن جاهزون للتعاون إلى أقصى الحدود، ولكن الزمن ليس زمن البطولات. وهذه العقلية تضرّ البلد كلّه. وحتى إذا كانت الحسابات شعبية وسياسية بناء على واقع طائفي فإنّ نتائجها ستكون إلحاق الضرر بالطائفة التي تمثّلها ورمزية دورها”.