في صيف 2016، وخلال احتدام المعركة ضد تنظيم داعش، استقبلت قاعدة “القيارة” الجوية قرب الموصل نحو 650 جندياً أميركيّاً، موزعين بين 400 جندي قتالي، و250 لمهمّات الدعم اللوجستي والإداري. وبدأت هذه القوة فور نزولها مهمة تطوير مدرج الطيران ليكون قادراً على استقبال الطائرات الحربية الثقيلة التي تُستخدَم لنقل المعدّات، وحتّى القاذفات الاستراتيجية.
في تلك الفترة لم يأتِ تسلُّم أو استخدام القوات الأميركية لهذه القاعدة الاستراتيجية بعيداً عن موافقة كل الأطراف العراقية، خصوصاً الفصائل العسكرية الموالية لإيران التي بدأت تتبلور في تشكُّل “الحشد الشعبي”، مع ما يعنيه ذلك من موافقة إيرانية على هذا الأمر.
يومها كانت المعارك ضدّ داعش، وصولاً إلى معركة الموصل، والجبهات التي كان يقاتل فيها الحشد، تُخاض من دون مساعدة أميركية أو غطاء جوّي أميركي للقوات التابعة للحشد. والأخيرة شكّلت ما يشبه غرفة عمليات مستقلّة بالتعاون مع الجنرال قاسم سليماني وفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وامتداداتها غير العراقية.
عودة الحرارة إلى خطّ الحوار الأميركي الإيراني، وإن اتّخذ طابع “غير المباشر” في مفاوضات فيينا منذ آذار الماضي، تبلورت أولى نتائجها في التفاهم بين الطرفين على تحييد العراق عن أن يكون ساحة صراع بينهما
إلا أنّ صعوبة معركة الموصل وسهل نينوى، دفعت هذه الفصائل، وبموافقة من حرس الثورة، إلى الاستعانة بالغطاء الجوي الأميركي بعنوانه الأوسع: “قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش”. فكانت العمليات العسكرية، التي يخوضها الحشد الشعبي على بعض جبهات القتال في محافظة الموصل، تجري بالتنسيق بينه وبين القوات الأميركية.
بعد اغتيال الجنرال سليماني وقائد أركان الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس بالقرب من مطار بغداد فجر الثاني من كانون الثاني 2020 بأوامر مباشرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، شهد العراق تحرّكاً برلمانياً قادته الكتل السياسية القريبة من إيران، وسايرتها فيه بعض القوى الأخرى. وانتهى التحرّك إلى إصدار توصية ملزمة للحكومة العراقية، التي كان يرأسها حينذاك عادل عبدالمهدي، بإخراج القوات الأميركية من العراق وإنهاء وجودها العسكري، الأمر الذي شكّل انقساماً واضحاً بين المكوّنات السياسية العراقية، إذ تراجعت الحماسة لدى المكوّن السنّي في تبنّي هذا التوجّه، في حين كان المكوّن الكردي أكثر وضوحاً بإعلان تمسّكه بالقواعد الأميركية في الإقليم.
أمّا المكوّن الشيعي فانقسم بين مؤيّد لتسريع تطبيق هذا القرار المنسجم مع الشعار الذي رفعه المرشد الأعلى للنظام الإيراني باعتماد استراتيجية “إخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا، ومن العراق وسوريا كمرحلة أولى”، وبين متريّث يبحث عن تدوير الزوايا والتوازن لتجنّب التصادم مع طرفيْ الأزمة الإيراني والأميركي.
إلا أنّ اللافت في هذا السياق، كانت ردّة فعل الرئيس الأميركي، الذي لم يُبدِ تمسّكه بالبقاء في القواعد العراقية، لكنّه طالب بدفع تعويضات عن الأعمال والإنشاءات والتجهيزات التي دفعت تكاليفها الإدارة الأميركية لبناء وتطوير هذه القواعد. هذا على العكس من رغبة الإدارة العسكرية في البنتاغون، التي رفضت أيّ إمكان للانسحاب، ودفعت الرئيس السابق دونالد ترامب إلى رفع عديد هذه القوات بدل خفضها. وحدّدت لها هدفاً واضحاً هو “مراقبة النشاطات الإيرانية في المنطقة”، خصوصاً في العراق وسوريا. ولا سيّما بعد قيام الجانب الإيراني باستهداف الجزء الأميركي من قاعدة عين الأسد في الأنبار العراقية.
وعلى الرغم من العمليات المتكرّرة التي قامت بها الفصائل الموالية لإيران، واستهدفت السفارة والقواعد الأميركية في بغداد (قاعدة فكتوريا بالقرب من مطار بغداد الدولي، أو قاعدة التاجي)، وفي الإقليم (قاعدة الحرير)، أو قوافل الدعم اللوجستي، وعلى الرغم من الضغوط التي مارستها هذه الفصائل والإصرار الإيراني على الحكومة العراقية الجديدة، التي أُوكلت رئاستها إلى مصطفى الكاظمي، للسير بجديّة في قرار إخراج القوات الأميركية… كان التحوُّل الرئيس الذي ساهم في تدوير الزوايا بين الأميركيين والإيرانيين على الساحة العراقية هو خروج الجمهوريين وترامب من البيت الأبيض ودخول الديموقراطيين وجو بايدن، ورهان الطرفين على إمكان العودة إلى الحوار وتفكيك الملفّات العالقة بينهما، سواء في الموضوع النووي أو التفاهم على أسس التعاون في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا.
كان التحوُّل الرئيس الذي ساهم في تدوير الزوايا بين الأميركيين والإيرانيين على الساحة العراقية هو خروج الجمهوريين وترامب من البيت الأبيض ودخول الديموقراطيين وجو بايدن، ورهان الطرفين على إمكان العودة إلى الحوار وتفكيك الملفّات العالقة بينهما
عودة الحرارة إلى خطّ الحوار الأميركي الإيراني، وإن اتّخذ طابع “غير المباشر” في مفاوضات فيينا منذ آذار الماضي، تبلورت أولى نتائجها في التفاهم بين الطرفين على تحييد العراق عن أن يكون ساحة صراع بينهما، والبحث عن مخارج للتصعيد بينهما لا تنتهي بإعلان الغلبة لطرف وهزيمة الطرف الآخر. من هنا كان المدخل إلى إعلان إطلاق الحوار الاستراتيجي بين أميركا والعراق، وعلى رأس أولوياته مسألة الوجود العسكري الأميركي في هذا البلد.
لم يكن الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد، الذي قاده الكاظمي وفريقه، ليصل إلى نتيجة في الزيارة الأخيرة للكاظمي إلى البيت الأبيض، واللقاء مع الرئيس بايدن، لو لم يحصل على الضوء الأخضر الإيراني بالذهاب إلى الصيغة التي تم الاتفاق عليها حول وجود القوات الأميركية، وتحويل الوجود القتالي إلى عناوين أخرى، وتغيير طبيعة عمل هذه القوات لتكون تحت عنوان مستشارين ومدرّبين. وهي الصيغة التي يبدو أنّها شكّلت المخرج لتفاهم أميركي إيراني حول هذا الوجود، خصوصاً أنّ الكاظمي، على ما يبدو، قد تبلّغ بالموقف الإيراني قبيل سفره إلى واشنطن في اللقاءات التي عقدها في بغداد مع وزير الاستخبارات محمود علوي ورئيس جهاز الاستخبارات في حرس الثورة حسين طائب. وهذا يعني أنّ التفاهم بين الطرفين الأميركي والإيراني قد جرى أو حصل في مكان ما خارج العراق، بما فيه الآليّة التي من المفترض أن تُخرج هذا التفاهم إلى العلن. وهو ما يفسّر مسارعة جميع الأطراف العراقية، ومن بينها تلك المحسوبة على إيران، إلى الترحيب بهذا الاتفاق الذي حدّد نهاية العام الحالي 2021 موعداً لخروج آخر جندي قتالي أميركي من العراق.
من هنا لا يمكن أن يأتي كلام السفير الأميركي في العراق متيو تولر مع مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي من فراغ أو بعيداً عن الأجواء التي حكمت الاتفاق الاستراتيجي الموقّع في واشنطن. إذ قال تولر إنّ الإدارة الأميركية “ترحّب بأيّ جهود دبلوماسية لإعادة العلاقات الطبيعية بينها وبين إيران”، مؤكّداً أنّ بلاده “لا ترغب في التوتير مع إيران، خصوصاً في العراق”. و”شجّع” كلّاً من العراق وإيران على “بناء علاقات عادية بينهما”، باعترا أنّ بلاده “لا تسعى إلى خلق أزمة بين البلدين”.
إقرأ أيضاً: الانسحاب الأميركي يطوّق فيينا النووية؟
فهل ننتظر مزيداً من التفاهمات بين واشنطن وطهران في المرحلة المقبلة، وبعد تسلّم إبراهيم رئيسي مهامّه على رأس السلطة التنفيذية وفي رئاسة الجمهورية، خصوصاً في الموضوع النووي وما يمكن أن يمهِّد له من تفاهماتٍ وتوسيعٍ لدوائر الحوار المستقلبي بينهما حول الملفّات الاخرى؟ أم الأرضية لذلك ليست مهيّأة لذلك بعد؟