كنت عائداً بالأمس من منطقة الدورة، بعد زيارة صديقي، وهو أرمنيّ عاد من بلاد الاغتراب أخيراً. قبل وصولي إلى تمثال المغترب الذي لم ينَل منه الانفجار، لفت نظري رجل يبيع الرايات استعداداً لذكرى 4 آب. وقفت عنده قائلاً: “أريد علماً لبنانياً مكتوباً عليه كلّنا 4 آب”، ارتبك الرجل وقال لي: “عندي علم القوات اللبنانية مكتوب عليه 4 آب”، حيث أُزيحت الأرزة إلى طرف الراية إفساحاً في المجال لبعض الشعارات. تابع البائع: “عندي علم التيار الوطني، وأيضاً مكتوب عليه 4 آب، وإن أردت عندي علم الصليب المشطوب…”. قلتُ له: “الصليب المشطوب ذاك الذي كنّا نراه في جولات الحرب وتنازع الأحزاب، وفي مجازر إقليم الخروب، وفي حصار دير القمر، وعندما اُستُبيحت صبرا وشاتيلا وهرول أقرباؤنا هاربين من الطريق الجديدة باتجاه قصر صائب سلام طالبين الأمن والأمان من سكّين الجزّار”.
لماذا الدعوة إلى قدّاس وليس إلى صلاة جامعة تجمع كل اللبنانيين بكل طوائفهم ومذاهبهم وميولاتهم؟ أليس المرفأ مرفأ كل اللبنانيين وكل المواطنين الأخيار؟
استفزّني كلام بائع الأعلام، فسألته: “هل لديك راية كُتب عليها: لا إله إلا الله؟”، فنظر إليّ بغضب غيّر لون وجهه من الشاحب إلى الأحمر الغاضب، وقال: “أنا لا أبيع رايات الدواعش الذين تورّطوا بالانفجار”. انطلقت بسيارتي مسرعاً وكأنّ داخلي يقول: عليكَ أن تجتاز خطّ التماس من الشرقية إلى الغربية قبل أن يسقط قرار وقف إطلاق النار.
جريمة المرفأ يا سادة، ليست جريمة مسيحية ولا جريمة إسلامية، ولا علاقة للموارنة أو الشيعة أو الدروز أو الأرثوذوكس أو البروتستانت أو العلويين بها. هي جريمة ضدّ الإنسان، ضدّ بيروت بناسها وأهلها من كل الطوائف والأديان، وبملحديها والقاطنين فيها. جريمة بحقّ كلّ البشر والحجر المحيط بذاك المرفأ الجبّار.
بعدما اجتزنا جسر الرينغ توقّفت جانباً كي ألتقط أنفاسي، وجال في مخيّلتي سلسلة من الأسئلة يزيل الوصول إلى إجابات عنها الغمام عن هذا النهار:
1- لماذا الدعوة إلى قدّاس وليس إلى صلاة جامعة تجمع كل اللبنانيين بكل طوائفهم ومذاهبهم وميولاتهم؟ أليس المرفأ مرفأ كل اللبنانيين وكل المواطنين الأخيار؟
2- لماذا الحديث عن أنّ الانفجار استهدف المناطق المسيحية وكأن لا مسلمين هناك؟ أما زال هؤلاء يعيشون لحظة تهجير المسلمين من الكرنتينا، ولم يدروا أنّهم عادوا بعد الطائف وهزيمة الأشرار؟ أم نسوا أنّ في الأشرفية شارعاً اسمه “حي بيضون” مسجده لم يتمكّن أحد من إسكات الأذان في مئذنته، وفي المدوّر مسجداً لـ”سيدنا الخضر” تضرّر كما تضرّرت كل الكنائس بالانفجار؟ أم يعتقدون أنّ “مسجد الخضر” بقي ثكنة لميليشياتهم في أيام الحرب ومعتقلاً للأبرياء الذين أُوقِفوا عند الحواجز من المدفون إلى الوروار؟
3- لماذا الإصرار على قتل ضحايا المرفأ أكثر من مرّة عبر إخراجهم من رحاب الوطن وحصرهم في أروقة الكنيسة على الرغم من قداسة المكان عند المؤمنين الأبرار؟
4- إنّ هذا العهد هو المسؤول الأول عن الانفجار، أفليست السلطة بيده؟ أليس هو الراعي، وكلّ راعٍ مسؤول عن رعيّته؟ كذلك كلّ مَن أوصل هذا العهد إلى السلطة مسؤول عن الانفجار إن كان عبر تسوية رئاسية لعينة أو عبر اتفاق معراب.
جريمة المرفأ يا سادة، ليست جريمة مسيحية ولا جريمة إسلامية، ولا علاقة للموارنة أو الشيعة أو الدروز أو الأرثوذوكس أو البروتستانت أو العلويين بها. هي جريمة ضدّ الإنسان، ضدّ بيروت بناسها وأهلها من كل الطوائف والأديان
إنّ دماء اللبنانيين، الذين سقطوا ضحايا التفجير في المرفأ، ليست دعاية انتخابية، لا من أجل ماكرون الذي صادر غضب الناس لحظة الانفجار، ثمّ ذهب إلى قصر الصنوبر كي يبيعنا مبادرة هو يعلم أنّها لن تصل إلى أيّ مكان، وذلك فقط لإنقاذ هذه المنظومة من الانهيار، ولا من أجل سمير جعجع في سعيه إلى القبض على الصوت المسيحي في صندوق الاقتراع، ولا هي “إبرة كورتيزون” لإعادة الحياة إلى أحلام جبران باسيل الرئاسية بعد الاندثار.
إنّ دماء سحر، تلك الفتاة المسيحية، ابنة القاع على الحدود الشرقية، والكعكي السُنّيّ ابن الطريق الجديدة، وحطيط الشيعيّ ابن الجنوب، لم تسقط من أجل صليب مشطوب ولا هلال معكوف ولا وليّ معصوم، بل سقطت من أجل الوطن المذبوح.
بناءً على كلّ ذلك، واحتراماً لدم كلّ الضحايا، وأوّلاً وأخيراً احتراماً لمدينتي بيروت، لن أشارك اليوم في مسرحية التضامن مع الضحايا. لن أشارك في القدّاس المقام في المرفأ. ليس لعدم وجود الرغبة لديّ بالمشاركة في إحياء ذكرى ضحايا التفجير الكبير، بل لأنّني لم أُمنح بطاقة دخول إلى القداس. وعندما استفسرت عن كيفية الحصول على واحدة قيل لي إنّ البطاقات موجودة لدى مسؤول أحد الأحزاب. فشعرت أنّني إن طلبت بطاقة فأنا أشارك الأحزاب تلك في سرقة دماء الضحايا وحطام مدينتي التي أحبّ من جرّاء هذا الانفجار.
إقرأ أيضاً: المسلمون لم يفجّروا المرفأ
لن أشارك في تفجير العيش المشترك في مدينتي، فيكفينا أنّ المرفأ تهدّم في أوّل انفجار.