من “صراع الحضارات” إلى “غرق الحضارات”

مدة القراءة 5 د

فاز الروائي والكاتب اللبناني-الفرنسي أمين معلوف في هذا الشهر (تموز) بجائزة مجموعة سفراء الدول الفرنكوفونية في فرنسا (غاف)، عن كتابه “غرق الحضارات”. ويستدعي الكتاب مقولة الراحل صامويل هنتنغتون، الذي تحدّث عن صراع الحضارات بعد انتهاء الحرب الباردة، التي خرجت منها الولايات المتحدة منتصرة على غريمها الاتحاد السوفييتي.

وقد سيطرت رؤيتان مختلفتان بشأن “ماذا بعد الحرب الباردة؟”. الأولى كانت لفرانسيس فوكوياما وأطروحته عن نهاية التاريخ. ويرى فوكوياما أنّ التطور التاريخي للإنسان انتهى بانتهاء الحرب الباردة، وأنّ الصراعات بين النظامين الرأسمالي والشيوعي كانت المحرّك للتطوّر التاريخي حسب المنطق الديالكتيكي للفيلسوف الألماني هيجل. وعند انتهاء الصراع برزت الليبرالية الرأسمالية والسياسية، ذروة التطوّر البشري، حيث بلغت غايتها النهائية.

وبعكس فوكوياما ــ ولعلّه ردٌّ عليه ــ يرى هنتنغتون، أستاذ فوكوياما، أنّ نهاية الصراع الإيديولوجي سيفضي إلى صراع بين الحضارات. والمصطلح لم ينحته هنتنغتون، بل سبقه إليه كثير من الباحثين والكتّاب. وتشير المصادر إلى أنّ ألبرت كامو، الروائي الفرنسي، قد أشار إلى الصراع الحضاري بين المستعمِر الأوروبي وشعوب المستعمرات في أرجاء العالم، وأنّ المؤرّخ الشهير برنارد لويس استخدم نفس التعبير لوصف العلاقة بين الإسلام والغرب.

سفينة الحضارة آيلة إلى الغرق؛ ولأنه ليس هناك قبطان يستطيع أن ينقذها. فالولايات المتحدة القوة الأعظم في العالم، أصبحت يعتريها كثير من العورــ خاصة بعد تهورها في غزو العراق

ولكن هنتنغتون توسّع في المفهوم حول الصراع المقبل في عالم ما بعد الحرب الباردة. ونسج نظرية حول تقسيم العالم إلى مناطق حضارية ستشهد صراعات على الأسس الحضارية وليس على الأيديولوجيات أو مصالح الدول. وقسّم العالم إلى الحضارات الغربية، والهندوسية، والأرثوذوكسية، والإسلامية واللاتينية، وإفريقيا جنوب الصحراء، وإفريقيا الشرقية.

ويتعامل مع هذه الحضارات على أنّها كتلة منسجمة مقابل حضارات منسجمة مع نفسها، على الرغم من أنّ كثيراً من الشواهد يشير إلى صراعات داخل الحضارة نفسها، وأنّ هناك تحالفات عابرة للحضارات ومناوئة لأعضاء في حضارتها، حسب مفهوم هنتنغتون. وليس من دليل أبلغ على ذلك من حرب تحرير الكويت التي حصلت قبل سنتين من مقالة هنتنغتون. وقد شهدت هذه الحرب تحالفات من عدّة مناطق حضارية.

وعَوْدٌ على بَدْء، فإنّ الكاتب معلوف يرى أنّ الحضارات لا تتصارع، ولكنها تصطرع. وقد سبق كتابه هذا “غرق الحضارات”، كتابان عنواناهما “اختلال العالم” و”الهويات القاتلة”. وأمّا التبشير بصراع الحضارات، “في غسق القرن العشرين” فإنّه افترض وحدة بنيوية لكل حضارة. ولكن ما تفتق هو الصراع داخل الحضارة الواحدة. ولا شك أن العالم العربي شهد هذا الاحتراب الداخلي. ويرى أنّ أوروبا وأميركا كان لهما نصيب من هذا التمزّق الداخلي. ومع أن الكتاب نشر قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، إلا أن ما تمخض عنها يثبت رؤية الكاتب.

ويتميّز روح العصر الجديد بالتأكيد على الفوارق الاجتماعية ومنحها شرعية. فالإثراء الفاحش ما عاد ينظر إليه بتقزّز، بل بانبهار. وتراجعت قيم المساواة والعدالة. ويخشى الكاتب من أن اختفاء البوصلة الاجتماعية المتمثّلة بالمساواة سيؤدي إلى تفكّك النسيج الاجتماعي.

ويدلف كاتبنا إلى موضوع قد عالجه من قبل، وهو صراع الهويات. إذ يرى أن هذه الهويات أصبحت خطراً على العيش المشترك. وقد شهدت الأجيال كثيراً من الدماء التي أهدرت بسبب الانتماءات الطائفية والعرقية. والحقيقة أن هناك دلائل عدة على خطورة الهويات الضيقة، كما رأينا في مذابح البوسنة ورواندا. بل شهدت منطقتنا هكذا صراعات، ولا تزال في عدة مناطق من العراق ولبنان إلى سوريا واليمن. ويصر الكاتب على أن الهوية الإثنية أو الدينية أو اللغوية لا تشكل بالضرورة أسساً لتكوين الأمة. بل إنّ “من الطبيعي والمشروع أن تعيش شعوب في إطار الكيان السياسي نفسه من دون الانتماء إلى الدين نفسه، أو اللغة نفسها، أو المسار التاريخي نفسه”.

ولهذه الأسباب فإن سفينة الحضارة آيلة إلى الغرق، لأنّه ليس من قبطان يستطيع أن ينقذها. فالولايات المتحدة القوة الأعظم في العالم، صار يعتريها كثير من العور، خاصة بعد تهوّرها في غزو العراق. وأوروبا غير متّحدة لتستطيع أن تلعب دور المنقذ مع أنّها مؤهّلة للقيام بهكذا دور، فهي مهد الحضارة الحديثة، وتمتلك كثيراً من المقوّمات المادية.

إقرأ أيضاً: غيتو وارسو = غيتو غزّة

إنّ تطوّر التكنولوجيا، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، الذي يزيد من تغوّل السلطات للسيطرة، ويقيِّد حرية الأفراد، هو مصدر آخر للقلق على مستقبل الحضارات. وإنّ تدهور البيئة بسبب ما يقوم به بنو البشر لا يبشّر بخير لمستقبل هذا الكوكب، حيث بوادر التغيّر المناخي بادية للعيان.

وما نراه هو أنّ العالم اليوم يحتاج إلى أنسنة علاقاته الكليّة وصياغتها على نهج مبتكر تعلو فيه القيم الإنسانية على حساب الهويات الضيقة والولاءات القومية. علاقات تحترم وتراعي أبناء هذا الكوكب من البشر والحيوان والبيئة المناخية. وإلا فإنّ سفينة معلوف الحضارية ستُودي بنفسها إلى الهلاك.

 

* كاتب وأكاديمي اماراتي

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…