“المقلوبة” هي من الأكلات الدسمة في العالم العربي وتركيا. ومن بين لوازم الطبخة هناك اللحم أو الدجاج، والأرزّ، وكميّات لا بأس بها من الخضار والمكسّرات الفاخرة. خصوصيّة الأكلة هي رصّ صفوف المعايير والمقادير وطريقة الإعداد. لكنّ التفنّن هو في المحافظة على شكل وعاء الطبخ بعد قلب الأكلة في “السدر” أو الصينيّة إلى جانب السَلَطة واللبن.
في تركيا تراجع أكلها بشكل ملحوظ في السنوات الخمس الأخيرة لأنّها كانت تُعتبر أكلة جماعة فتح الله غولن المفضّلة، التي كان طلاب وكوادر “الكيان الموازي” يلتفّون حولها قبل مناقشة قراراتهم وخياراتهم السياسية داخل تركيا وخارجها. ومن المحتمل أن يكون قرار المحاولة الانقلابية الفاشلة قد اُتُّخذ على مائدة من هذا النوع.
إنّها مسألة فيها الكثير من التشابكات والتعقيدات، وتحتاج إلى صفقات إقليمية وتفاهمات أميركية روسية لم تحصل بعد، على مسار المرحلة الانتقالية ومعالمها الجديدة في سوريا
أثارت خيبة الأمل الأميركية في أفغانستان شهيّة روسيا في السيطرة على كامل الأراضي السورية عبر التحرّك على كلّ الجبهات لتسهيل هيمنة حليفها بشار الأسد على الجنوب والشمال السوريّيْن، المنطقتين الأكثر سخونة بسبب النفوذ التركي والإسرائيلي على الجبهتين. هي تريد تجهيز وجبة طعام تفاجىء بها الجميع وتعدّها على طريقتها ما دامت هي اللاعب الميداني الأقوى على الأرض والممسك بالكثير من خيوط اللعبة السورية منذ عقود.
ومن بين أهداف موسكو غير المعلنة في سوريا:
1 – إقناع واشنطن بتغيير سياستها السورية، والتنسيق معها في ملفّ أكراد سوريا في إطار ضمانات ومقايضات متبادلة، بينها موضوع الفدرالية السورية، حلم “قسد” المدعوم أميركيّاً وروسيّاً.
2 – تسهيل بسط النظام لنفوذه في الشمال السوري بعد إنجاز عملية درعا ووضع الجولان في إطار ضمانات قُدِّمت لتل أبيب بأنّ الستاتيكو القائم هناك لن يتغيّر من دون اتفاقية سلام سورية إسرائيلية تعطي واشنطن وموسكو الضوء الأخضر بعقدها.
3 – إقناع المجموعة العربية بفوائد عودة النظام إلى الحضن العربي لأنّه سيعيد هذه المجموعة إلى بقعة جغرافية تراجع فيها نفوذها منذ سنوات أمام التمدّد التركي والإيراني.
4 – الاستعداد لبحث العملية الانتقالية السياسية في سوريا خارج كلّ المنابر الإقليمية والدولية التي وصلت إلى طريق مسدود.
5 – طمأنة أنقرة وطهران إلى أنّ حصّتهما محميّة في سوريا أمنيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً.
فهل من المعقول أن تأخذ إدارة الكرملين كلّ ما تريده في سوريا وهي تعرف أنّ المسألة مرتبطة بأكثر من ملفّ سياسي وأمني واستراتيجي يشمل الجغرافيا الشاميّة بأوسع دوائرها، حيث تتقاطع المصالح السورية واللبنانية والأردنية والعراقية والإسرائيلية والتركية والإيرانية؟
تريد قوات سوريا الديموقراطية من واشنطن أن تكون قد استفادت من الدرس الأفغاني لتطبّق ما تعلّمته في سوريا عبر التمسّك بالورقة الكردية هناك حتى النهاية، ولموازنة النفوذ الروسي والتركي والإيراني. لكنّ قيادات “قسد” تعرف أيضاً أنّ الثقة بفريق عمل بايدن لن تكفيها، فهي أيضاً تعلّمت الدرس قبل 4 أعوام عندما تخلّت إدارة ترامب خلال ساعات عن الحليف الكردي في شمال العراق الذي تحرّك لإجراء استفتاء شكليّ والاستعداد لقرار الانفصال عن بغداد.
قسد والضوء الأخضر
أشعلت “قسد” في الآونة الأخيرة الضوء الأخضر أمام النظام في دمشق. يقول النظام أيضاً إنّه لن يعاملها كما عامل الآخرين في إدلب حتى لو نسيت أميركا مئات الأطنان من السلاح الثقيل في القامشلي والحسكة ودير الزور، وحتى لو سقط حلم الكيان الكردي المستقلّ في شمال سوريا.
موسكو ستفاوض أنقرة وطهران وتل أبيب على تسوية سياسية في سوريا تضع الجميع أمام تفاهمات الحدّ الأدنى، وهي ستكون بذلك قد قدّمت خدمة لواشنطن بمساعدتها على التحرّر من التزامات وأعباء فشلت في تنفيذها هناك. التنافس اليوم هو بين أنقرة و”قسد” والنظام وبعض العواصم العربية وطهران وتل أبيب على مَن يقترب أكثر من موسكو ويكسب دعمها في سوريا.
إذا ما تعثّر فعلاً تنظيم لقاء قمّة أميركي تركي في نيويورك خلال اجتماعات الجمعية العامّة للأمم المتحدة، فالردّ التركي سيكون بعد أسبوع من روسيا مباشرة خلال اللقاء المرتقب بين الرئيسين إردوغان وبوتين. السيناريو الذي يتقدّم على غيره بالنسبة إلى تركيا في الملفّ السوري هو أن تتنازل واشنطن لموسكو بدل التنازل لأنقرة في شرق الفرات لأنّ روسيا هي اللاعب الأقوى على الأرض والأوفر حظّاً للتفاهم معها في الملفّ السوري. أما زيارة إردوغان المرتقبة إلى روسيا فهي لفتح الطريق أمام تفاهمات سياسية جديدة في مسار الملفّ السوري، لكنّ موسكو تعرف أنّ فرصها وأوراقها ستكون أقوى بسبب الموقف الأميركي المتراجع في سوريا.
هناك ما/مَن أقنع إدارة بايدن بإمكانية الاعتماد على موسكو في إدارة عملية تغيير سياسي حقيقية داخل نظام الأسد تسهم في تغيير سلوكه تجاه بلدان الجوار. وحلقة من عملية التغيير هذه ستكون متعلّقة بتقليص النفوذ الإيراني على الأراضي السورية مقابل دعم روسي لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية، ومراجعة موسكو لمسار علاقاتها مع إيران وتركيا في المنطقة.
وخطوة عرقلة واشنطن للقاء قمّة تركي أميركي لا يمكن فصله عن الحوار الأميركي الروسي القائم بعيداً عن الأضواء حول سوريا ومصير “قسد”، والعرض الروسي الأخير المقدّم للإدارة الأميركية حول ضمانات متعدّدة الجوانب تحمي حصّة واشنطن. أما الكارثة في اللعبة السياسية الجديدة اليوم فهي أن تكون إدارة بايدن تسعى إلى دعم موسكو خلال لقاء القمة الروسي التركي المرتقب.
يرتبط قرار واشنطن بإطلاق يد موسكو في سوريا بعد سنوات من العداء والتباعد، ارتباطاً مباشراً بتفسيرها للتغيّرات الجيوسياسية على نطاق إقليمي، وفشلها في مواجهة النفوذ والتمدّد الروسيّيْن، وخسارتها أوراق تغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط. إذ تريد واشنطن أن تبقى في سوريا والعراق ولبنان ليس من خلال خوض المواجهات مع موسكو، بل من خلال التفاهم معها على حماية مصالحها عبر تقاسم النفوذ في هذه الملفّات. وقد أدركت أنقرة أيضاً أنّ فتح صفحة جديدة تُنهي علاقتها المضطربة مع العديد من العواصم، مثل دمشق وبغداد وتل أبيب وأثينا، يحتاج إلى الدعم الروسي وليس إلى الاصطفاف وراء واشنطن التي كان آخر ما قاله وزير خارجيّتها للأتراك هو الحليف المفترض.
أثارت خيبة الأمل الأميركية في أفغانستان شهيّة روسيا في السيطرة على كامل الأراضي السورية عبر التحرّك على كلّ الجبهات لتسهيل هيمنة حليفها بشار الأسد على الجنوب والشمال السوريّيْن، المنطقتين الأكثر سخونة
إردوغان وبوتين في سوتشي
سيوجِّه إردوغان رسائله إلى البيت الأبيض من سوتشي الروسية بعد اجتماعه ببوتين، وفي مقدّمها أنّ فتحة المقصّ بين أنقرة وموسكو في سوريا لا يمكن أن تتّسع لأنّ مصالحهما الثنائية والإقليمية تتطلّب ذلك. الشمال السوري يميل أكثر نحو تفاهمات تركية روسية بموافقة أميركية مشروطة بدلاً من تفجير الوضع مجدّداً هناك. ستأخذ موسكو على عاتقها ضمانات إبعاد خطر المشروع الكرديّ الانفصالي على حدود تركيا الجنوبية، وطمأنة أنقرة في موضوع قوى المعارضة السورية المحسوبة عليها مقابل تليين تركيا لموقفها في مطلب المنطقة الآمنة، والمساعدة على حسم مسألة الجهاديين في إدلب.
بدأت مسألة أخرى تتوضّح معالمها في الآونة الأخيرة حول أهداف الحوار الأردني العسكري الأمني والاقتصادي مع النظام في دمشق بعد الزيارة التي قام بها الوفد العسكري السوري إلى عمّان، والتي سبقتها زيارة وزير النفط في حكومة الأسد بسام طعمة في الثامن من أيلول الجاري، حيث اتّفق مع وزراء الطاقة في الأردن ومصر ولبنان وسوريا على خريطة طريق لنقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا. علينا أن نتذكّر هنا اللقاء الأردني الروسي الذي تمّ في موسكو بين العاهل الأردني والرئيس الروسي، والذي سبقه لقاء قمّة أردني أميركي كان الملف السوري في مقدّم جدول أعماله. وقد توقّف الإعلام الأميركي عند خطّة أردنية عُرِضت على أكثر من لاعب إقليمي بهدف الاتفاق على خريطة طريق للحلّ في سوريا. نجحت عمّان، كما يبدو، في إقناع واشنطن بعدم التصعيد في مسائل نقل الكهرباء والنفط إلى لبنان عبر سوريا. فهل هدف عمّان النهائي هو إنقاذ بشار الأسد، وإعادة تلميع صورته وتعويمه عربياً ودولياً؟ أم إنقاذ الاقتصاد الأردني وحماية حدودها الشمالية مع سوريا، وهي تعرف لعبة التوازنات الحساسة في المنطقة؟ هل من الممكن القول إنّ أميركا اكتفت بشرط حماية مصالح الحليف المحلّي الكردي، وتنازلت عن بقيّة القضايا لروسيا لتتصرّف كما تشاء في الجغرافيا السورية في إطار صفقة إقليمية مع الكرملين؟
حتى لو كانت الإجابات على أسئلة المشهد السوري تأتي بشكل تدريجي ومبرمج وكأنّها استراتيجية تحرُّكٍ وخارطة طريق أعدّت لها موسكو بدقّة وصبر. وحتى لو كانت “المقلوبة” روسيّة هذه المرّة، حيث يحاول النظام في دمشق أن يقتنص الفرصة لتسجيل عملية اختراق جديدة في المشهد السوري نتيجة التخبّط الأميركي الغربي التركي والتفوّق الروسي المدعوم من إيران وبعض العواصم العربية، فإنّ حدود محاولة استقواء النظام في دمشق ببعض العواصم العربية، كما قرأنا في بيانات الجامعة العربية الأخيرة، هي مواجهة النفوذين التركي والإيراني في الساحة العربية، وليس فتح الطريق أمام بشار الأسد للعودة إلى الحضن العربي تحت مقولة “لا غالب أو مغلوب” أو “عفا الله عمّا سلف”.
إقرأ أيضاً: أنقرة – القاهرة: عناق… استكشافيّ
إنّها مسألة فيها الكثير من التشابكات والتعقيدات، وتحتاج إلى صفقات إقليمية وتفاهمات أميركية روسية لم تحصل بعد، على مسار المرحلة الانتقالية ومعالمها الجديدة في سوريا.
*أكاديميّ وكاتب تركيّ، والعميد المؤسّس لكلّية القانون في جامعة غازي عنتاب، وأستاذ مادّتيْ القانون الدوليّ العامّ والعلاقات الدوليّة.