أنقرة – القاهرة: عناق… استكشافيّ

مدة القراءة 8 د

يعتبر عمر شليك، المتحدّث باسم حزب العدالة والتنمية التركي، أنّ انعقاد الجولة الثانية من المحادثات الاستكشافية بين مصر وتركيا في أنقرة خطوة أخرى إلى الأمام، وأنّ العلاقات بين البلدين تشهد تطبيعاً في الوقت الراهن، لافتاً إلى بدء محادثات ثنائية تتعلّق بالتطوّرات في ليبيا وسوريا والعراق وفلسطين وشرق المتوسط، وإلى أهميّة إيجاد استراتيجيّات أكثر تقارباً في ما يرتبط بالمشكلات الإقليمية. في كلامه هذا، قد يكون شليك يعرف ما لا نعرفه أو يقرأ ما يجري ويدور كسياسي وحزبيّ يهمّه إبراز الجوانب الإيجابية، وتجاهل السلبيّات والتحفّظات والمؤشّرات الكثيرة التي تقول العكس.

توتّرت العلاقات التركية المصرية في كانون الثاني 1954 بعد الثورة في مصر، وتسبّبت بأزمة دبلوماسية حادّة بين البلدين. في العلن كانت الأسباب فرديّة وشخصية، لكن من وراء الستار تعدّدت وتشعّبت وكانت كلّها مرتبطة بالتباعد الاستراتيجي بين البلدين

ما بين أيدينا من معلومات وتصريحات دبلوماسية من الجانبين لا يشير إلى حدوث أيّ تحوّل أو تقدّم حقيقي في مواقف الطرفين في أعقاب الجولة الثانية من المحادثات بين الطرفين بتاريخ 7 و8 أيلول الحالي في العاصمة التركية أنقرة، باستثناء زيادة عدد الجلسات، والبقاء أمام طاولة التفاوض ليومين متعاقبين هذه المرّة، وبيان ختامي مشترك يقول إنّ كلا الطرفين ناقشا “قضايا ثنائية، فضلاً عن الموضوعات الإقليمية”، مثل ليبيا وسوريا والعراق وفلسطين وشرق المتوسط، وإنّهما “اتّفقا على مواصلة تلك المشاورات، وأكّدا رغبتهما في تحقيق تقدّم في الموضوعات محلّ النقاش، وحاجتهما إلى اتخاذ خطوات إضافية لتيسير تطبيع العلاقات”. لكنّ رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي يرى أنّ عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين هذا العام ستتمّ في حال “تغلّبت الدولتان على القضايا العالقة بينهما”.

هيمنت صيغة “المثنّى” الانفتاحية على مضمون البيان الختامي لنتائج جولة الإياب في المحادثات التركية المصرية التي جرت في أنقرة قبل أسبوع. لكن بعد ساعات من مغادرة الوفد المصري برئاسة السفير حمدي لوزا العاصمة التركية، تلقّى وزير الخارجية المصري سامح شكري كلمة السرّ، فتحرّك ليقود وضع اللمسات الأخيرة على توصيات لجنة متابعة السياسات التركية الخماسية في الجامعة العربية، تمهيداً لتبنّيها في مؤتمر القمّة العربي على مستوى وزراء الخارجية المنعقد في القاهرة.

 

تدخلات تركيا انتهاكات

وقد ورد في البيان ما يلي: “أكّدت اللجنة عدم شرعيّة الوجود العسكري لتركيا في الدول العربية، وضرورة سحب جميع قواتها من دون قيد أو شرط.. وأدانت جميع أشكال التدخّلات التركية في الدول العربية، خاصّة في العراق وليبيا وسوريا.. التدخّلات التركية تعدّ انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وتعدّياً سافراً على سيادة الدول العربية، وتهديداً جدّياً للأمن القومي العربي”.

في هذا الإطار، المهمّ هو ردّة فعل أنقرة على بيان الجامعة العربية الذي أعدّته القاهرة والرياض وأبوظبي وبغداد والمنامة، وهي عواصم يُقال إنّ تركيا بدأت صفحة جديدة من العلاقات معها. إذ عبّرت عن رفضها المطلق “لِما ورد من ادّعاءات.. بعض دول الجامعة العربية تواصل اتّهاماتها المعتادة ضد تركيا، وهو أمر لا قيمة له لدى الشعوب العربية الصديقة والشقيقة.. تلك الدول التي تكيل الاتّهامات لتركيا تفعل ذلك من أجل التغطية على طموحاتها وأجنداتها الخاصة”.

“لاقيني ولا تغدّيني”، كما يقول المثل اللبناني.

كان وزير الخارجية المصري يدعو الدول العربية في أيلول العام المنصرم إلى انتهاج سياسة عربية موحّدة وحازمة “لردع تركيا”. لا يزال شكري على موقفه، كما يبدو، حين ردّد قبل أيام أنّ مصر لا يزال لديها العديد من التحفّظات على السياسات التركية في الكثير من الملفّات الثنائية والإقليمية.

نقل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان شعار “رابعة” الذي رفعه قبل سنوات من ميدان التحرير إلى ميدان “يني قابه” في الداخل التركي: أمّة واحدة، علم واحد، وطن واحد، ودولة واحدة. لكنّ هناك تحفّظاً مصريّاً متواصلاً على المواقف التركية حيال ما شهدته الساحة المصرية قبل 8 سنوات، ورفضاً شديداً للتحرّك التركي في حدائق مصر الخلفيّة، في ليبيا وإفريقيا والساحة الفلسطينية، كما تقول الأصوات الواردة من القاهرة.

فلماذا تتجاهل أنقرة حقيقة بقاء الاصطفافات التي تقودها مصر وبعض العواصم العربية ضدّها في المنطقة؟

الطرح التركي فيه الكثير من التفاؤل والتبسيط باعتبار المسألة لقاء مصالح ثنائية وإقليمية. لكنّ الأصوات الواردة من مصر تقول إنّ القاهرة متمسّكة قبل اتفاق إعادة السفراء بخطوة تركية لا بدّ منها، وهي مرتبطة بالتصعيد التركي عام 2013 حيال التطوّرات في مصر. هل ما ينتظره الجانب المصري هو بيان دبلوماسي أو موقف سياسي تركي يعبّر عن قراءة جديدة مغايرة تفتح الأبواب أمام التفاهمات الأوسع؟

يقول سامح شكري: “نحتاج إلى وقت لتقويم نتائج محادثات أنقرة”. وأنقرة تتمسّك بالمناخ الإقليمي الإيجابي السائد وضرورات الاستفادة منه تركيّاً ومصريّاً. كانت الآمال تُبنى على تحوّل مفاجىء في مسار العلاقات التركية المصرية هذه المرّة، لكنّ انبعاث الدخان الأبيض من غرفة الاجتماعات يتأخّر مرّة أخرى. الهدف كما سمعنا هو ليس بناء علاقات على أساس المصالح المشتركة، بل المصالح المتبادلة. هل ستتوجّه الأنظار هذه المرّة إلى موعد الجولة الثالثة من الحوار أم كلّ طرف بات يعرف مطالب وأولويّات الطرف الآخر، وعليه أخذ زمام المبادرة إذا ما كان راغباً في الصلح حقّاً؟

الطرح التركي فيه الكثير من التفاؤل والتبسيط باعتبار المسألة لقاء مصالح ثنائية وإقليمية. لكنّ الأصوات الواردة من مصر تقول إنّ القاهرة متمسّكة قبل اتفاق إعادة السفراء بخطوة تركية لا بدّ منها، وهي مرتبطة بالتصعيد التركي عام 2013 حيال التطوّرات في مصر

توتّرت العلاقات التركية المصرية في كانون الثاني 1954 بعد الثورة في مصر، وتسبّبت بأزمة دبلوماسية حادّة بين البلدين. في العلن كانت الأسباب فرديّة وشخصية، لكن من وراء الستار تعدّدت وتشعّبت وكانت كلّها مرتبطة بالتباعد الاستراتيجي بين البلدين في التوجّهات والخيارات الإقليمية والدولية. في أزمة عام 2013، حدث العكس هذه المرّة. اتّهمت القاهرة القيادات التركية باتّخاذ مواقف عدائية حيالها، والتدخّل في شؤونها، والوقوف إلى جانب مجموعات تحاول زعزعة الأمن والاستقرار في البلاد على حساب المصالح التركية والمصرية. ثمّ فتحت ارتدادات الأزمة الطريق سريعاً أمام اصطفافات إقليمية وخيارات متباعدة في التعامل مع الملفّات باتت تتحكّم وتؤثّر في رسم معالمها ومستقبلها. النتيجة كانت دائماً واحدة: صعوبة التلاقي الاستراتيجي التركي المصري حتى لو حدث “العناق الاستكشافي”.

ما مصير “الإخوان”؟

قد يكون الحوار الدبلوماسي المصري التركي بين الخيارات الاستراتيجية التي فرضها الكثير من المعطيات الإقليمية والدولية. ومن الممكن أن تكون الهدنة القائمة في موضوع شرق المتوسط، والتطوّرات الإيجابية المتلاحقة في منطقة الخليج، إلى جانب القلق المشترك في ملفّ أفغانستان، والتحرّكات التي تجري على خطّ القاهرة والدوحة وعمان، والحوار التركي السعودي والتركي الإماراتي، مسائل إيجابية تصبّ في مصلحة تحريك الحوار وتفعيله. لكنّ المفاوضات التركية المصرية لا يمكن أن تتجاهل دوائر العلاقات التي بُنِيت من قبل البلدين في الأعوام الأخيرة. يمكن للحوار أن يتقدّم من دون أثينا ونيقوسيا وباريس، لكنّه من الصعب أن يتقدّم من دون دعم عربي حقيقي تساهم الرياض وأبو ظبي وبغداد والمنامة فيه.

ورقة الإخوان في الحوار التركي المصري لم تعُد العقبة المؤثّرة أمام ملفّات خلافيّة إقليمية، وخصوصاً بعدما جرى في السودان وتونس والمغرب أخيراً. تتحدّث تسريبات في الإعلام التركي عن صيغة تفاهمات، تمّت بين أنقرة والقاهرة على شكل إبعاد قيادات إخوانية تعيش في تركيا إلى دولة ثالثة، تحسم النقاشات في الموضوع. مَن كان يقول إنّ الرئيس إردوغان سيتّصل بقيس سعيّد ليعلن ما عنده، بدلاً من أن يفعل ذلك في مهرجان شعبي حاشد كما فعل عام 2013 عندما تحدّث عمّا جرى في مصر؟

إقرأ أيضاً: مصر وتركيا: تبادلا التحية… فأيّهما يبدأ بالسلام؟

مضمون شعار رابعة استبدله إردوغان لاحقاً بمسائل داخلية تركية بحتة، لكنّ أصابع اليد اليمنى الأربعة التي تُرفَع منذ سنوات لا تُنسى بسهولة في القاهرة، والدليل هو عدم تخلّيها عمّا شيّدته من شبكة علاقات وتحالفات إقليمية بوجه تركيا. سيكون تبادل السفراء خطوة تحوُّل حقيقي في مسار العلاقات، إلا أنّه سيكون مصحوباً ببيانات سياسية جديدة تُرضي الطرفين. لكنّ الهاجس الأهمّ، الذي يقلق قيادات العدالة والتنمية، هو احتمال أن تكون القاهرة تعوِّل على لعب أوراق فرص الوقت والمتغيّرات بانتظار أن يصل ما هو واصل، كما تُردِّد اليوم بعض الأصوات في المعارضة التركية.

*أكاديميّ وكاتب تركيّ، والعميد المؤسّس لكلّية القانون في جامعة غازي عنتاب، وأستاذ مادّتيْ القانون الدوليّ العامّ والعلاقات الدوليّة.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…